عبد الجليل سليمان

مُحزنٌ هذا الدمار


وأخبار يومية التيار عدد أمس، تأتي بنائب عن الدائرة (7) الدلنج، ويأتي بكري عبد الله سلمة بنبأ أمر رسمي صادر عن والي جنوب كردفان أزيل بموجبه – الجمعة المنصرم – موقع أثري يتجاوز عمره (100) عام بالقوة، وتمليكه لأحد المستثمرين بطريقة ملتوية – بحسب ما أوردت التيار نقلا عن النائب، الذي أشار إلى أن الوالي عيسى آدم أبكر استدعى قوات شرطية مدججة بأسلحة ثقيلة لتنفيذ قرار إزالة مبنى المجلس الريفي الأثري، الأمر الذي روع المواطنين الآمنين. مُحزن ما حدث حد أنه يبدو كحالة رضيع أُنتزع عنوة من صدره أمه، فتمزقت نياط قلبه وقلبها ولم يلبثا هنيهة حتى فارقا الحياة.
والدلنج مدينة الفرح والخضرة والحياة الناعمة الرخيّة فارقت كل ذلك منذ سنوات طويلة بفعل الحرب والنزوح والعصبية غير الضرورية، وفيما يقترب السلام الآن، وتستعد المدينة الفاتنة لاستعادة فرحتها، إذا بأحدهم ينكأ جرحها القديم بقرارٍ يفتقر للخيال والرؤية المستقبلية حتى على مستواها الاستثماري دعك عن الوجداني/ الإنساني، فهذا لا يهم هؤلاء السياسيين.
حسنًا وكيف؟، فالمبنى الأثري هذا، كان يمكن لولا أزيل، أن يجلب إلى خزينة الولاية ملايين الدولارات لاحقًا – إذا ما حل السلام، خاصة وأن الدلنج تعد إحدى المدن السودانية المرشحة – مستقبلاً – لتتبوأ مكانًا بارزًا على خارطة البلاد السياحية وتجذب إليها أفواجًا كبيرة من السياح من داخل البلاد وخارجها، فهي مدينة الطبيعة الساحرة والجبال الرائعة والخضرة الدائمة والطقس الربيعي والماء النمير العذب والإنسان الكريم الشهم، المبتسم، المتعايش مع الغير، المسالم الوديع.
إلا أن الإدارات ضيقة الأفق منحسرة الخيال لا تنظر إلى الأمور إلا بطريقة (رزق اليوم باليوم)، فهي لا تمتلك القدرة على التفكير طويل المدى لأنه وعر وشائك، فتلجأ إلى (الساهلة)، بيع الأراضي، هدم المباني، فرض الرسوم والضرائب وإثقال كواهل المواطنين الفقراء بها، وهذه كلها حلول متعجلة وآنية سيكون حصادها هشيمًا ووبالًا على المواطن والبلاد.
والحال، إن الدلنج لم تكن المدينة الوحيدة التي شهدت حالة فظة وفظيعة ومحزنة مثل تلك، فأنا شاهد عيان على تحطيم مبنى بلدية القضارف قبل سنوات، وهو أيضًا بُني في عهد الإنجليز قبل نيف ومائة عام، وكان إلى قبل هدمه بمثل بجانب مبنى بنك السودان ومباني حي الموظفين التي أزيل معظمها، أقدم بيوت ومباني المدينة، فيا للحسرة ويا للندامة.
محزن وفظيع، أن يحدث هذا التحطيم الذي يتعدى المباني إلى الوجدان الجمعي للسودانيين، محزن أن لا ترى الحكومة مساحة للاستثمار في بلد بحجم قارة إلا في تلك المباني الأثرية، وحتى إن رأت فلماذا لا تسثمر فيها كما هي دون تحطيمها وهدمها؟ ماذا كان سيحدث لو حوّل والي جنوب كردفان المبنى الأثري بحالته الراهنة إلى فندق ومطعم أو منتجع؟ وهل كانت هناك ضرورة ملحة ليُعمل فيه المعاول و(الكراكات)؟ ألم يكن ممكنًا صيانته دون الإخلال بأسلوب معماره واستخدامه لأغراض أخرى ربحية؟ ألا تفعل تركيا وإثيوبيا وماليزيا وإسبانيا واليونان ومصر ولبنان وسوريا… مثل هذا؟ ألم يسمع الوالي بالأهرامات، وكنسية أياصوفيا وميدان تقسم ومدينة تدمر وآثار اليونان، وروما القديمة وقصر الإمبراطور هيلاسلاسي؟ لماذا لا يحطمون قديمهم ونفعل؟ وهل يعلم الوالي أن الآثار التي أشرنا إليها تدر لتلك الدول الآن مليارات الدولارات؟
سمع الوالي أم لم يسمع، فالفأس وقع على الرأس، كالعادة، ونحن إذ نكتب نعلم أننا نبكي على اللبن المسكوب، لكننا إن لم نستطع درء تلك الكوارث فلنكتب مرثياتنا عن مُدُنَ الأحزان، فيا مدن الأحزان لم أعرِف أبداً أن الدمعَ هو الإنسان، أن الإنسانَ بلا أثر ذكرى إنسان.