جعفر عباس

فلسطين صارت تراثا شعبيا


أقول بصراحة إنني لا أقرأ افتتاحيات الصحف العربية «عمدًا»، وخاصة ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية؛ لأنها مكررة ورتيبة ومملة.. فلا مجال لاسترداد الأرض «ما لم يتم بلورة موقف عربي موحد» لمواجهة «العدو المتغطرس الذي يتلقى دعمًا بلا حدود من واشنطن». وأكثر ما يغيظني هو أن تتحدث الصحافة العربية عن «القضية المصيرية» و«المصير المشترك». و«الموقف العربي الموحد».
العرب الرسميون وبعض صحافتهم يتعاملون مع القضية الفلسطينية كـ«أداء واجب» ومن باب «إبراء الذمة»، وكم من كاتب أشهر قلمه عشرات السنين في وجه «العدو الغادر»، ثم طار إلى حضن العدو نفسه بمجرد حصوله على الفيزا الضرورية وبات يحاضرنا حول الأساليب الحضارية للتعامل مع الخصوم (وليس الأعداء)، وأحيانا يخيل إليَّ أن بعضهم يتعاطى القضية الفلسطينية كـ«فلكلور»؛ فالإنسان يولد في العالم العربي ويرضع من ثدي أمه اهتمامًا بمسألة فلسطين. وكما في الملاحم الإغريقية فإنه يسمع عن بطولات خارقة وأحداث مروعة، وعن فارس كان وآخر سيكون، ثم يشب العربي عن الطوق فلا يجد من حوله فارسًا أو فرسا، بل وجوهًا جهمة عبوسة عليها غبرة ترهقها قترة، تفترس الحلم قبل أن يتشكل في الصحو والمنام، ومن ثم لا يجد الصحفيون العرب بدا من ممارسة أحلام اليقظة بالتحدث عن «بلورة الموقف وتوحيد الصف».
ثم ظهرت حيلة جديدة لتفادي تهمة اجترار المعلبات اللفظية، بظهور «قضية/أزمة الشرق الأوسط»، مع أن الشرق الأوسط يعاني أزمات جعلت المسألة الفلسطينية مجرد فلكلور مثل الأندلس، التي مازال بعضهم يبكي على أطلالها، فالشرق الأوسط يعاني الجهل والتخلف والفساد والكبت والقهر والظلم والاستبداد، وهي أمور يتعذر طرحها في أوسلو أو إيكالها إلى ريال مدريد.
وأذكر أنه بعد أن قررت إسرائيل بناء مستوطنة هار حوما أو جبل أبو غنيم، سال مداد كثير ودموع غزيرة، بعضها صادق وبعضها تمساحي، وكتبت وقتها مقالا في جريدة «القدس العربي» خلاصته أن المستوطنة ستصبح أمرا واقعا لأنّ كلام إسرائيل «ماشي»، واستنكر كتاب جهابذة هذا القول وعدّوه انهزامية، بل هناك من اتهمني بالعمالة لإسرائيل، مع أن ما قلته كان أكثر واقعية من براجماتية المهرطقين الذين وعدونا «بحليب وبأقواس قزح».
(عندما صرع الجندي الأردني أحمد الدقامسة سبع فتيات إسرائيليات في مارس من عام 1997 تسابقت الصحف العربية -بحسن نية- لتأكيد إصابته بلوثة عقلية، بينما أثبتت وقائع محاكمته أنه ليس مجنونًا، وأن الإحساس بالمهانة والذل هو الذي حدا به إلى ارتكاب تلك الفعلة «البشعة»؛ نعم فمصرع التلميذات أمر مؤسف، ولا يخدم أي قضية، ولكنه كان نتيجة حتمية لممارسات أكثر بشاعة أدمنها الطرف الإسرائيلي).
باختصار، الإقرار بحقيقة الأوضاع أجدى وأنفع من استغفال الذات بالحديث عن موقف عربي موحد، وعن الظفر الذي لا يطلع من اللحم. ولست ماسوكيا يتلذذ بإحباط الذات، بل احسب أنني واقعي أكثر من المتهافتين على القصعة المتسخة التي تمدها إسرائيل لكل من يريد أن يلغ فيها.. بل إنني مؤمن على نحو قاطع بأن دولة فلسطين المستقلة ستقوم يومًا ما، لكن بعد أن يرحل جيل الديناصورات الذي أدمن النفاق والشقاق والعقوق، وهو جيل ظل «ملطشة» ولا يعرف معنى حقيقيا للعزة والكرامة والشموخ، ورضي من الغنيمة بالذهاب إلى واشنطن والعودة من دون خفي أوباما أو كلينتون أو بوش أو ريجان أو كارتر، أو حتى «أبو مرزوق»!
وأعلن بكل صراحة ووقاحة وبجاحة أن ثقتي -فيما يخص حق الفلسطينيين في العيش في دولتهم المستقلة فعلا- فيما يخص هذه القضية في الدول الأوروبية أكبر من ثقتي في الدول العربية التي صارت تعاني التوحُّد، وصارت من ثم فاقدة القدرة على «التركيز».. فمعظم الرأي العام والبرلمانات الأوروبية اليوم تقف بصلابة مع الحق الفلسطيني، ونحن نجعجع وهم يطحنون، والطحن ينتج شيئا ذا قيمة!!!