يوسف عبد المنان

خربشات (الجمعة)


جلس “عمر كافي” تحت جسر في وسط المدينة يحيط به المئات من الأفارقة الهاربين من جحيم القارة السمراء.. أم تحتضن طفليها وتتحدث بلغة لم يفهمها.. سأل ثلاثة من السودانيين يشاركونه السكن تحت الجسر عن (سفة تمباك) ولم يجدها، شعر برغبة شديدة في (العماري) إنتاج مزارع طويلة.. بدارفور.. أخرج من جيب بنطاله سيجارة برنجي هي الوحيدة المتبقية من آثار السودان لم يشعلها كعادته.. نظر للون العلبة البيضاء، بشريطها الأحمر.. على طريقة ناس الكيف الممنوع، فتح سيجارته ووضع التبغ في فمه (كسفة) تعوضه (خرمه الشديد).. يحصل “كافي” على الطعام من جمعية خيرية.. توزع كل صباح وجبات على أمثاله من المنتظرين مثولهم أمام المحكمة لتقرر بشأن الأسباب التي أدت بهم لدخول إيطاليا.. تم السماح لهم بالعمل إن وجد.. والحصول على إعانة شهرية من البلدية وهي الخطوة الأولى للحصول على صفة لاجئ إنساني.. مئات المنتظرين باللهفة والشوق لتقديمهم للمحكمة.. والتي قد تتأخر لعام كامل ليبقى على حاله ينام تحت الجسر وتنتاش جسده الحشرات والبرد الصيفي بعد هطول الأمطار.. قبل حلول الشتاء حيث تستحيل الحياة تحت الجسور.. في الليل يفكر “عمر كافي” في اللحظة السعيدة التي يعلن عن مثوله أمام المحكمة ومقابلة القاضي والمحققين لتقرير مصيره ونقله من تحت الجسر إلى مبنى تابع لمفوضية اللاجئين.. تذكر “عمر كافي” يوم أن أبلغه شيخ القرية بأنه مطلوب عند محكمة المك بتهمة (كسر خشم بيت) واحدة من بنات عرب البقارة.. أمضى الرجل ساهراً يتأمل النجوم.. وينتظر مصيره والخوف والجزع وضربات وخفقات قلوبه خوفاً من محكمة (المك) الأهلية في قضية (كسر خشم البيت)، ويعني ممارسة الشاب للجنس مع فتاة.. والتعبير وافد من التداخل الثقافي بين الجنوب والشمال.
وعند الوصول إلى محكمة المك تم وضعه في محبس صغير يحيط به حرس المك، وقد نزعت ساعته من يده ووضع عصاه بعيداً، حضر والد الفتاة “حماد” بجلبابه المتسخ وأسنانه التي تساقط نصفها وبقي النصف الآخر.. وحضرت والدة الفتاة التي تدعى “حلوم” لم يجد “عمر كافي” غير الاعتراف علناً أمام (المك) بممارسة الجنس مع الفتاة.. لكن أحد الرجال الكبار اعترض على المك بإصدار حكم بالغرامة (20) رأساً من الأبقار وتحمل مسؤولية الفتاة إذا ماتت أثناء الولادة، عليه دفع دية امرأة كاملة.. وإذا لم تمت يتحمل والده نفقات الولادة.. اعترض الرجل الذي يدعى “حماد” القول إن هذه البنت سبق أن حملت سفاحاً من “الفاضل الجلالبي” سائق اللوري السفنجة وبالتالي يجب أن لا تتعامل المحكمة باعتبارها فتاة كاملة العذرية.. جنحت المحكمة وكثرت الهمهمات، لكن والدة (المرأة) الحبلى اعترفت بأن بنتها سبق أن أنجبت سفاحاً من “الفاضل” ود الجزيرة، مما أدى لتخفيف الحكم مثلما خفف الحكم على “عثمان” ولد “موسى” طيرو الشهر الماضي. انفضت محكمة المك وخرج “عمر كافي” حاسر الرأس خجلاً على فعلته.. ولكنه الآن ينتظر أن يخرج من المحكمة مزهواً بقبوله كإنسان لاجئ له حق الحصول على (400) يورو من البلدية.
(2)
ارتدى بنطاله الأسود والقميص (الكاروهات) والبدلة الرمادية لم ينم الليلة الماضية فرحاً بإعلان المندوب عن اسمه ضمن ثلاثة عشر آخرين يتم تقديمهم للمحكمة للنظر في الأسباب التي دفعتهم للجوء لإيطاليا عن طريق البحر.. لن ينسى “عمر كافي” نصائح قدمها إليه محامٍ أردني الجنسية ومساعدته الصومالية الحسناء، بأن يتحدث عن الاضطهاد الذي يتعرض إليه من وطنه بسبب ديانته المسيحية، وكيف أن السلطات في الدولة المركزية تشن هجمات على السكان من النوبة.. في الإقليم الذي يخوض حرباً في مواجهة المركز منذ انفصال الجنوب.. لكن “عمر كافي” قال للمحامي أنا مسلم ولست مسيحياً ولم أتعرض لاضطهاد ديني في وطني السودان.. قال المحامي بلهجة حاسمة أنت أسود اللون وبالتالي مسيحي أمام المحكمة فقط.. أنا الذي أقف أمامك مسلم وأنتمي إلى الأسرة الهاشمية لكني هنا.. محامياً للذين يتعرضون للاضطهاد في بلدانهم.. صحيح أنني لا أذهب للمسجد ولا أصوم رمضان، ولكن لن أشرب الكحوليات ولا أتردد على بيوت المومسات القادمات من مالي والسنغال والسودان، وتذكر “عمر كافي” مثلاً في السودان يقول (الجعلي يقضي يوموا خنق) ومن أجل غرضك (فرش خلقك)..هم أصلاً الخواجات الكلاب ما عندهم دين ولا حاجة.. فلماذا لا أقول له إنني مسيحي أتعرض للاضطهاد من قبل المسلمين!! انتابه الخوف من وجود (قس) في المملكة يسأله عن آيات في الكتاب المقدس، فقال (نعتبر نفسي مسيحي كافر وعاصي).
وقف أمام المحكمة في انتظار قدوم القاضي الذي لا يتبعه رهط من العسكر كما في بلادي.. أخذ يسأل امرأة تحتضن طفلاً دون العامين ويقف من خلفها آخر ممزق الثياب.. تتدلى من أنفه مادة بيضاء اللون.. وفي أحشائها جنين آخر.. سألها القاضي عن وطنها فقالت النيجر وعن زوجها فقالت إن والد الطفل الذي يقف بجوارها قتله المتمردون الطوارق.. والثاني حملت به سفاحاً من جنود الحكومة النيجيرية الذين كانوا يتعقبون النساء أكثر من المتمردين الذين يهاجمون القرى.. أما الجنين الذي في أحشائها فمن الصعوبة معرفة والده لأنها كانت تنام كل يوم في أحضان رجل في مدينة “بنغازي” بالجماهيرية الليبية، ولكنها تستطيع تميز ما إذا كان جنينها من العرب أو الأفارقة بعد مولده.. أمر القاضي بقبولها وارتسمت ابتسامة في وجهها الجميل.
وتحدثت بلغة غير مفهومة.. وجاء الحاجب ليطلب من “عمر كافي” النهوض.. والإجابة على أسئلة القاضي وهو يتذكر وصايا المحامي الأردني الذي وعده بمبلغ (200) يورو في حال قبوله كلاجئ إنساني.
أنا “عمر كافي تية” من السودان منطقة جبال النوبة هاجمت الحكومة مناطقنا وأحرقت الكنيسة التي نصلي فيها (الجمعة) وفي رمضان.. نظر إليه المحامي فأدرك خطه في ذكر شهر رمضان وصلاة (الجمعة).. ومضى “كافي” يتحدث عن اغتصاب المليشيات للرجال والنساء.. وإنه ممنوع من الخروج لأسباب سياسية وتم اعتقاله أكثر من أربع مرات.. نظر القاضي في الأوراق التي أمامه.. سأله أنت مسلم أم مسيحي؟؟ ارتبك بعض الشيء، أنا “كافر” طلب المحامي من القاضي إعادة السؤال لأن موكله لم يفهم بعد.. ويعاني من أثر الضرب على أذنيه.
(3)
أمر القاضي “عمر” بالانصراف وقبول طلبه كلاجئ لأسباب إنسانية.. وحاول مد يده للقاضي لمصافحته إلا أن الشرطي منعه من ذلك.. وهرول مسرعاً خارج قاعة المحكمة لتلقي التهاني من زملاء ورفقاء الرحلة “عثمان سعيد” من النيل الأبيض و”هارون أبكر” من القضارف وتمتد جذوره للمساليت بغرب دارفور.. وهؤلاء ينتظرون الأسبوع القادم مقابلة القاضي والتقرير بشأن حالتهم.. انتاب “عمر كافي” إحساس بالزهو والفخر لنجاحه في امتحان اللجوء الإنساني، تذكر قريته الصغيرة في أم سردبة.. وسوق ستة بالحاج يوسف.. وتمنى لو كان يملك اتصالاً لإبلاغ أسرته في حي السلطان عبد الله كافي غرب أم درمان، بأنه قد أصبح لاجئاً إنسانياً في أوروبا.. أسرع المحامي الأردني لضحيته بل صديقه “كافي” لاستخراج بطاقة اللجوء وصرف مبلغ (400) يورو إعانة شهرية.. دفع منها حاضراً نفقات المحاماة.. ومائة يورو أخرى نظير طباعة الأوراق واستخراج البطاقة.
تم صرف سرير ومرتبة وبطانية.. وحقيبة لوضع الملابس في مبنى صغير يقع في أطراف العاصمة الإيطالية “روما” ويسمح للاجئين من أمثال “عمر كافي” العمل في حقول العنب في موسم الحصاد.. ونظافة الشوارع.. وحانات الليل.. ونظافة المراحيض.. وغسيل الملابس في بيوت الأسر.. وهمس “عمر كافي” في أذن من يشاركه السكن بأن له خبرة في الكوافير.. وحنة النساء وتنظيف الشعر.. ولكنه لا يستطيع غسل الملابس الداخلية (للخواجات).. ضحك صديقه.. وقال كل شيء في هذه البلاد يهون في سبيل اليورو.. أنسَ قصة كرامة ورجولة وشهامة.. وعيش كما نحن في أوروبا ومرحباً بك في بلاد لا يطلب بوليسها من المارة في الشارع بطاقات الهوية ولا جوازات السفر وكل (جمعة) وأنتم بخير.