موظفون من منازلهم
عندما كنت أعمل في التلفزيون السوداني، أتانا مدير «جديد» وبعد دراسة الأحوال والملفات لأشهر قليلة، اتخذ قراراً بإنهاء خدمات 130 موظفاً وموظفة في يوم واحد، وكانت نتيجة ذلك الإجراء الذي قد يبدو قاسياً ان أداء التلفزيون شهد تحسناً ملموسا، فقد كان ذلك الجيش الجرار من الموظفين يرهق ميزانية التلفزيون، وكان بعض من أنهيت خدماتهم يحتل مكاتب ضخمة وفخمة، بينما كنا نضطر إلى حفظ أشرطة الفيديو في الحمامات بعد تعطيل المواسير فيها بالنظر إلى ضيق المساحة المخصصة لمكتبة الفيديو، فقد كانت الغالبية العظمى ممن تم طردهم غير معروفين لدى بقية العاملين في التلفزيون بمعنى أنهم كانوا يتقاضون رواتب من دون أن يؤدوا أي عمل، بل من دون أن تطأ أقدامهم مبنى التلفزيون. (أحد ولاة إقليم دارفور المضطرب في غرب السودان قال إن العام المنصرم – 2015 – شهد تخصيص مئات الملايين كرواتب لموظفين وعمال وهميين، مما يعني أن في السودان نظرًا للرئيس العراقي السابق نوري المالكي الذي أنفقت حكومته مليارات الدولارات على أسلحة وهمية، وكانت تدفع رواتب لأكثر من مائة ألف من الجنود والضباط الأشباح).
وفي دولة عربية شقية (إذا أردت أن تقول «شقيقة» فأنت حر، ولكنني شخصيا لا أعرف دولة عربية واحدة ترتبط مع أخرى بعلاقات أخوة صادقة تجعلهما شقيقين)، المهم أن وزير القوى العاملة في تلك الدولة أعلن اكتشاف أن هناك 60 ألف مواطن يتقاضون أجوراً من الدولة من دون أن يمارسوا أي عمل، بل اكتشف أن بضعة آلاف منهم أشخاص حقيقيون ولكنهم لم يبلغوا السن القانونية للعمل، يعني دون سن الـ 18، وآلافا أخرى بلغوا سن التقاعد ولكنهم ظلوا يتقاضون رواتبهم على «داير المليم» –وفوقها بالطبع معاش التقاعد!– وغيرهم يشغل أكثر من وظيفة حكومية (على الورق طبعا) ويتقاضى أكثر من راتب واحد. وكان هناك «المتواضعون» الذين يتقاضون رواتب عن وظيفة واحدة فقط (يا عيني) من دون أن تطأ أقدامهم المكاتب التي يفترض أنهم يعملون فيها.
الوزير العربي هذا قال إن عدد العمالة الفائضة/ الوهمية تلك 60 ألفا، وأنا أقول له: فيك الخير، خليها 160 ألفا، لأنه العدد الأقرب إلى التصديق والواقعية، رغم أنه من بلد قليل السكان، ولو تم إجراء مسح دقيق في الدول العربية ذات الكثافة السكانية العالية لاتضح أن المستهبلين الذين يتقاضون رواتب بالأوانطة من الحكومات يصل في بعضها إلى أكثر من نصف مليون.
تذكرت منسي صديق الروائي السوداني الراحل الطيب صالح والذي تسبب في ترك الطيب لعمله في إذاعة هنا لندن (بي بي سي)، فقد كان منسي يعمل مدرساً في لندن، ويشغل في نفس الوقت وظيفة أخرى في قسم آخر في هيئة بي بي سي، ولكنه لم يبلغ الطيب صالح بذلك، فكان يسند إليه بعض الأدوار في الأعمال المسرحية الإذاعية، فيتقاضى نظير ذلك مكافأة كبيرة، علماً بأن مكافأة المتعاون من خارج الهيئة أكبر من مكافأة العامل في الهيئة، وحسبت إدارة الإذاعة أن الطيب «تعمد» مجاملة صديقه ومنحه مكافأة لا يستحقها، ولأن الطيب سوداني -وبالتالي رأسه ناشف– فقد رفض أن يدفع عن نفسه تهمة المحاباة من منطلق اعتقاده بأنه لم يكن يجوز لإدارة بي بي سي مجرد إساءة الظن به، وانتهى به الأمر مستقيلا من العمل بالإذاعة التي كان مرشحاً لتبوّء أعلى المناصب فيها، ثم أكرمه الله وصار مديرا لوزارة الإعلام في قطر ثم خبيرا في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في باريس.
لن تقوم لنا قائمة طالما أن الأجهزة الحكومية عندنا تدار على أساس خيري: خلق وظائف وهمية وتكديس الموظفين في الدواوين لـ«محاربة البطالة»!!