وَفْقَ ما قاله الخُبَراء الصَّحافةُ السُّودانيةُ.. مستقبلٌ مظلمٌ وإشكالياتٌ تُهدِّدُ المسيرة
تواجه الصحافة في البلاد مشاكل عديدة تعترض مسيرتها وتهدد بزوالها من الوجود، فمؤشر تراجع عدد المطبوع وتدني التوزيع ينبئ عن عقبات حقيقية تواجه الصحف، أرجعها مختصون في مجال الإعلام إلى عدة عوامل تتحمل الحكومة نصيب الأسد منها بالتضييق على هامش الحريات المتاح وتكبيل “الصحف” بالضرائب والجمارك ومدخلات الطباعة، فضلاً عن تصنيفها بين موالية للحكومة تحظى بإعلاناتها ومُعارضة لها تُحرم منها، بجانب تدهور مُريع لبيئة العمل وضعف الأجور وتدني قُدرات الصحافيين خاصة المبتدئين لعدم حصولهم على التأهيل والتدريب اللازم، فيما اتجه البعض إلى أن الصحافة السودانية ليست إستثناءً من التحولات الكونية الكبيرة في عصر ثورة المعلومات التي عصفت بـ “المطبوعات الورقية”، وأنه لا خيار سوى مجاراة العالم الرقمي والتحول تدريجياً إلى “الصحافة الإلكترونية” أسوة بالصحف العالمية الكبيره التي شرعت فعلياً في الخطوة.
العلاقة بين الصحافة والسلطة
نظم المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحفية أمس ورشة بقاعة الشهيد الزبير للمؤتمرات أمس تناولت العلاقة بين الصحافة والسلطة التنفيذية، بجانب المشكلات التي تواجه صناعة الصحافة في البلاد، ابتدر الحديث رئيس المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحافية الدكتور فضل الله محمد، بوصفه لـ “الصحافة” بأنها سلطة رابعة، مشيراً إلى أن النظام الدستوري في البلاد مبني على منهج فصل السلطات، والصحافة ليست استثناء وأنه رغم الاستقلالية التي كفلها لها الدستور فإنها تقوم بدور تكافلي مع السلطات الأخرى في الدولة، لافتاً إلى أن العلاقة بين الصحافة والسلطة التنفيذية تمر بمشكلات ويكون طابعها التربص والتحفظ لطبيعة كل منهما، ومع ذلك هناك شواهد للتعاون بين الطرفين. وأكد أن مهمتهم في المجلس هي دفع الحوار بين الجانبين، وشدد على ضرورة حرية الصحافة مع ممارسة مهنية راشدة، وتعهد بمتابعة مخرجات الورشة وتنفيذها على أرض الواقع.
من جانبه أكد وزير الإعلام الدكتور أحمد بلال عثمان حرص الدولة على أن تكون هناك علاقات راسخة بين الصحافة والسلطة التنفيذية يسودها الاحترام والتقدير، وقطع بأن من حق الصحافة الحصول على المعلومة بشفافية كاملة في مناخ تسوده الحرية، وشدد على أن المسؤولية يجب أن تكون متبادلة في جوانبها المختلفة، وقال إن العالم يشهد نوعاً من الاضطراب وتخلُّق عصر جديد معالمه غير واضحة حتى الآن، مشيراً إلى أن المنطقة شهدت حراكاً كبيراً منه السلبي والإيجابي تمثل في الربيع العربي، وأكد أن السودان أكثر وعياً لإحداث التغيير والوفاق عبر الحوار الوطني والجلوس على طاولة واحدة، وأثنى على دور الصحافة وقال إنها لعبت دوراً أساسياً في الحوار
مؤكداً جدية الحكومة في تلمس إشكاليات الصحافة وإيجاد الحلول لها، مقراً بأن الحصول على المعلومة ليس أمراً مكتسباً وإنما حق دستوري ولكن يتطلب التثبت والتريث قبل نشر المعلومة، وقال إن العمل الوطني والتوعية الوطنية ليست حكراً على أحد، وأضاف: “نحن لسنا في مجال تخوين وإننا شركاء ونحاول أن نفعِّل الشراكة ونذلل ما اعترى المسيرة من توتر حدث هنا وهناك وإن الشفافية مطلوبة. مؤكداً أن توفر الشفافية يقفل الباب أمام الشائعات والتخمينات.
وتعهد الوزير بأن تجد توصيات الورشة التنفيذ والاهتمام.
حرية وقوانين
قدم عميد كلية الإعلام بجامعة العلوم الطبية الكاتب الصحفي، صلاح أحمد محمد إبراهيم ورقة عن العلاقة بين السلطة والصحافة، وطوف في “فذلكة تاريخية” عن الصراع بين الطرفين ووصفه بالقديم، مشيراً أنه لا صراع بين الصحافة والسلطة القضائية وأرجع الخطوة إلى وجود قوانين دقيقة وقوية تنظم العلاقة بين الطرفين قال إنها غير موجودة في علاقة الصحافة والسلطة التنفيذية والتشريعية، ونوه إلى أن المشكلة الرئيسية التي تخلق الصدام بين الطرفين ترجع إلى عدم سيطرة الأجهزة الرسمية على تدفق المعلومات التي تخرج منها، وشدد على أنه لا توجد حرية مُطلقة بل تحكمها الدساتير والقوانين بجانب مبادئ أخلاقية ومهنية تحكم عمل الصحافة، مشيراً إلى أنه حتى في الدول المتقدمة في العالم الأول يحصل أحياناً تدخل في حرية الصحافة عندما تتصل بالأمن القومي، وأكد أن الضامن الأول لحرية الصحافة هو الدستور في حدود الحرية التي يوفرها والمنصوص عليها، وأشار إلى أن الوضع في السودان وكثير من البلدان الإفريقية والعربية مقيد رغم أن الدساتير تنص على حرية الصحافة إلا أنها في ذات النص تكون مختومة بعبارة “إلا ما نصت عليه القوانين” ما يعطي السلطة التنفيذية والتشريعية التدخل وفقاً للقوانين التي تُفصلها، مُشيراً إلى أن عبارة “الأمن القومي” فضفاضة ومُفخخة تفتح الباب للحكومة للتدخل. وفي الجانب الآخر شدد على ضرورة تمسك الصحف بالمهنية حتى تتجنب العديد من الإشكالات والأخطاء وتفعيل ميثاق الشرف الصحفي.
أشرار وأخيار
رئيس تحرير صحيفة “الصيحة” النور أحمد النور انتقد في تعقيبه على الورقة، تصوير الحرية الصحفية والمسؤولية المهنية بأنهما ضدان، وأكد أن المسؤولية المهنية ليست متصادمة مع الحرية إطلاقاً، ونوه إلى أن الصحافة مواجهة بقوانين متعددة، منها الجنائي وقانون الأمن الوطني وقانون المعلوماتية وقانون مجلس الصحافة والمطبوعات نفسه. وقال إنها تُستخدم للتضييق على الصحافيين، مشدداً على ضرورة التمسك بميثاق الشرف الصحفي وميثاق رؤساء التحرير الذي رُفعت بموجبه الرقابة القبلية، ودعا إلى أن تُعلق هذه المواثيق في الصحف ويُدرب عليها الصحافيون المبتدئون، ونوه إلى أن 80% من العاملين في الصحف في الوقت الراهن تجربتهم ليست بالكبيرة وبعضها محدود وتحتاج إلى تدريب وتأهيل ولا يجدون اهتماماً من الصحف، وأرجع هذا الأمر إلى أنه أحد الاشكاليات الصحفية المؤثرة، وأشار إلى أن الدستور يشمل مواد وصفها بالممتازة في وثيقة الحقوق لكنها عملياً مقيدة بالقوانين يمارس خلالها تعسف ضد الصحف، لافتاً إلى أن تجربة صحيفة “التيار” بعد عودتها عبر المحكمة الدستورية شكلت سابقة قضائية، إلا أن جهاز الأمن مازال يمارس سلطاته على الصحف، ونوه إلى أن مسألة الحصول على المعلومات عندما وصلت إلى البرلمان صدر خلالها “13” استثناء، مما أدى إلى عدم حدوث تطور، وشدد على تأثر الصحافة في دول العالم الثالث بالبيئة السياسية والقانونية، وقال إن الحكومة في الوقت الراهن تصنف الصحف نفسها على أساس “الأشرار والأخيار” أي موالية تمنح إعلانات الدولة ومعارضة تُحجب عنها، ووصف البيئة السياسية التي تعمل فيها الصحف بالسيئة.
تبريرات أمنية
بدوره دافع ممثل دائرة الإعلام بجهاز الأمن والمخابرات، الوطني اللواء عباس الخليفة عن تدخل الأمن في الصحف ومصادرتها، وقال: “نحن مع حرية الصحافة ولكن يجب أن تكون حرية مسؤولة ونحن نتدخل وفقاً للقانون”. وأضاف: “لا نتدخل عبطاً أو بشكل انتقائي في الصحف وإنما نمارس سلطاتنا بموجب القانون ونلتزم في ذات الوقت بأحكام القضاء”. وأشار إلى سابقة صحيفة “التيار” وقطع بأن جهاز الأمن التزم بقرار المحكمة، وأكد أنهم مع تفعيل القوانين وحتى يتم ذلك سيعملون على حفظ التوازن بين الحرية والمسؤولية، ونوّه وأشار إلى أن الأوضاع في البلاد تمر بتعقيدات كبيرة تجعل لهم بعض التحفظات، وقال إن تصنيف الصحف لا أساس له من الصحة من وجهة نظرهم واستدل أن لديهم إعلاناً تم توزيعه على جميع الصحف.
إشكالات صناعة الصحافة
وقدم الخبير الإعلامي والكاتب الصحفي د. ربيع عبد العاطي ورقة تناولت الاشكالات التي تواجه صناعة الصحافة، وقال إنها تتعلق أيضاً بالأوضاع الاقتصادية في البلاد بشكل عام وقال إن الظروف التي يمر بها السودان الصحافة ليست منها استثناء، وتحدث عبد العاطي عن العديد من الاشكاليات تتعلق بالعمل الصحفي نفسه والسياسات الحاكمة، فضلاً عن إشكاليات تتلعق بالمؤسسات الصحفية نفسها وضعف مقدرات الناشرين ومؤهلاتهم عن إخراج صحيفة واستمرارها، وعدم الإيفاء بحقوق الصحافيين، بجانب ضعف البنية التحتية وإشكالات المطابع والتوزيع والتشريعات والصراع السياسي وغياب التحفيز والتشجيع من الدولة، ونوه إلى تأثير تدفق المعلومات في الفضاء الإلكتروني على مقروئية الصحف وتوزيعها، فضلاً عن القرارات المنفردة للسلطة في توزيع الإعلانات، وارتفاع تكلفة الطباعة وقلة المطابع المؤهلة، وزيادة أسعار الصحف.
تراجع التوزيع
وعقَّب على ورقة “اشكاليات صناعة الصحافة” الكاتب الصحفي وعضو مجلس الصحافة السابق، المهندس محمد وداعة الذي استشهد بتراجع المطبوع والتوزيع، ونوه إلى أن فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لم يتجاوز عدد السكان وقتها “17” مليون فكان عدد المطبوع من الصحف “500” ألف نسخة والتوزيع حوالي “200” ألف نسخه، وأكد أن الفترة التي أعقبت اتفاقية السلام في العام 2006 شهدت قفزة كبيرة من حيث عدد الصحف والمطبوع والتوزيع، ونوَّه إلى أنها تراجعت بصورة كبيرة عقب انفصال دولة الجنوب، وأرجع المُشكلة الرئيسية إلى تراجع الحريات وقال إن الصحف بائرة والمواطن لا يجد فيها ما يشبع رغباته لأنها غير جاذبة ومقيدة وأخبارها متشابهة. وانتقد وداعة عدم تنفيذ قرار رئيس الجمهورية رقم “424” لسنة 2006 الخاص بمعاملة الصحافة كصناعة استراتيجية وتخفيض مدخلاتها ورسوم الجمارك والضرائب وقال: “للأسف لم ينفذ هذا القرار حتى الآن”.
مداخلات وتعقيبات
وشهدت الورقة التي تناولت العلاقة بين السلطة والصحافة العديد من مداخلات الحضور ووصف بعض المشاركين تدخل جهاز الأمن في الصحف ومصادرتها والتضييق عليها بأنه لا يحدث إلا في بلد مثل السودان، ووصفوا ما يحدث بالإجراءات التعسفية، ونوهوا إلى أن الحكومة إذا منحت الصحف دوراً أكبر وأتاحت لها الحريات فإنها ستستفيد نفسها من الأدوار الرقابية وكشف بواطن الخلل.
وعقب مقدم الورقة على عدد من المدخلات وقال إن على الصحافة الاعتراف بالواقع السياسي ومجاراته، وشدد على أن البنية السياسية لكل نظام هي من تحدد النظام الإعلامي.
وتحدث الكاتب الصحفي جمال عنقرة عن تقصير مجلس الصحافة والمطبوعات الصحفية في مراجعة تجديد تراخيص الصحف، وشدد على أن الجهات المسؤولة همها تحصيل الرسوم والتغاضي عن المخلفات الكبيرة في البئية الصحافية.
مستقبل مظلم
نقيب الصحافيين السودانيين الصادق الرزيقي رسم مستقبلاً مظلماً للصحافة السودانية، وتحدث عن تحول كبير في سلوك المتلقي والجمهور، واتجاهه للصحافة الحديثة والحصول على الأخبار من الإعلام الجديد من مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة والصحف الإلكترونية، ونوه الرزيقي إلى مشكلة أخرى تتعلق بعدم وجود جسم واتحاد للناشرين يتابع مشكلات الطباعة ومدخلاتها والضرائب وغيرها من الرسوم مع جهات الاختصاص وترك الأمر لإدارة الصحف نفسها، فضلاً عن عدم التزامهم تجاه الصحافيين ومستحقاتهم بجانب التدريب والتأهيل، وقال: “إذا لم يقم اتحاد للناشرين لن تحل قضايا الصحافة”. وتحدثت الكاتبة الصحفية أمينة الفضل عن حقوق الصحافيين وبيئة العمل وعدم اهتمامها بتدريب كوادرها رغم أن القانون يلزمها بتخصيص 3% من ميزانيتها لتدريب منسوبيها، وشددت على أن جميع القوانين فصلت ضد الصحفي والتضييق عليه.
محمد جادين:صحيفة الصيحة