عبد الجليل سليمان

الدِقيرْ ليس غونلوغسون ولا الفضيل


والدقير هنا هو (جلال يوسف) وليس سواه، أما سيغموندور غونلوغسون، فهو رئيس وزراء أيسلندا السابق، لو تذكرون، والرجل، للأسف، لم تغمره أضواء الإعلام إلى بعد ما عرف بفضيحة تسريبات) وثائق بنما) التي سلطت الضوء على كيفية استخدام الأغنياء وأصحاب النفوذ الملاذات الضريبية الآمنة لإخفاء ثرواتهم، فكان أن تقدم فور ورود اسمه باستقالة من منصبة الحصين حتى يتسنى لمن يهمهم الأمر (المواطنين) والجهات الرسمية التحقيق معه ومن ثم محاكمته.
أما الدقير، فهو الأمين العام لأحد فروع الحزب الاتحادي الديمقراطي ومساعد رئيس الجمهورية، الذي تقدم فجأة وسط (حُشيّد) مُقدر من جمهوره وحضور إعلامي معقول، باستقالته من منصبه الحزبي والبقاء في التنفيذي، ثم ما إن تعالت الهتافات راجيّة سيادته ومتوسلة إلى فخامته بالتراجع عن هذا القرار الخطير، وانهمرت الدموع واحمرت المقل ووجفت القلوب، حتى أحال استقالته إلى مؤسسات الحزب، ماذا قلت (مؤسسات)؟! ربما، من يدري؟ فـ “الليالي من الزمان حبالى”، أحالها إلى المؤسسات لتنظر فيها وتفيد، هكذا قال وهكذا ردد (شعبه) الطيب، وغير الطيب.
إذن فلنختزل الأمر، ونقول لن يستقيل الدقير لأنه لم يتقدم باستقالة أصلاً، فقط كان يمثل مسرحية مكرورة ومجترة، مسرحية ظل كثير من سياسيي هذه البلاد يستدعونها كلما تعثرت بهم الخطى في دورب السياسة الشائكة والوعرة.
يلعب الدقير دور البطولة في مسرحيته المملة، لتكتب الصحف عناوينها على نحو من (الدقير يستقيل وأنصاره يرفضون)، هذا كافٍ لبقائه إلى على (سنام) الحزب إلى أن يترجل منه على آلة حدباء (بعد عمر طويل).
بطبيعة الحال، هذا ديدن كل سياسيي هذه البلاد، وتلك مسرحيتهم المفضلة، وتلك لعبتهم المملة، فإذا كان الدقير يريد حقًا أن يستقيل لكان استهلم (غونلوغسون) ومضى حال سبيله، لكنه لن يفعل طالما الحزب حزبه والمنصب العام منصبه وكوتة حزبه في الحكومة بين يديه يقلبها كيفما ما شاء، فيأتي بأخيه محمد أو صديقه أحمد وزراء خالدين مُخلدين كما هو أيضًا.
إلى ذلك، لا نريد من الرجل أن يحتذي حذو الأيسلندي، فذلك بعيد المنال، لكنه إذا نظر في تراث المسلمين، سيجد نماذج أيضًا وإن كانت قليله، و”أن الفضيل بن عياد، وهو ينصح هارون الرشيد، ذكر له أنّ واليا لسيدنا” عمر بن عبد العزيز، شكاه الناس إليه فكتب إليه: “يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله، فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء”. فلما قرأ الوالي رسالة الخليفة ترك ولايته وجاء للخليفة، فقال له: ما أقدمك؟ قال: “خلعت قلبي بكتابك،لا أعود إلى ولاية أبدا حتى ألقى الله عز وجل، واستقال من عمله واليا”.
وأراهن، لو أن الدقير مكان الفضيل لما (اشتغل) بما كتب الخليفة، لأن قلب السياسي السوداني لا ينخلع حتى ولو أفقر البلاد واغتنى وأرهق العباد واستراح.