جعفر عباس

السودان الذي لم أعد أعرفه


أخبار سودان اليوم تعطي الانطباع بأنه بلد جميع مواطنيه مسلحون، رغم أنهم يعانون الجوع والعطش ويصومون الدهر كله من دون أن ينالوا ثوابا على ذلك، لأنه ليس صيام تطوع بل صيام المجبر المرغم على الشيء، وهذا الانطباع صحيح في بعض جزئياته، ولكن السودان المعاصر يختلف عن السودان الذي نشأت ودرست فيه وبدأت فيه حياتي العملية والزوجية
حتى سبعينات القرن الماضي لم يكن هناك سوداني واحد يمارس التسول، بل كان المتسولون، على قلتهم، من الدول الإفريقية المجاورة، ولم يكن ذلك بالضرورة لأن الجميع كانوا ميسوري الحال، بل لأنهم كانوا «مستوري» الحال، وكان التكافل العائلي والاجتماعي يعفي المعوزين ذل السؤال، وأذكر أن سكان منطقة حائل في السعودية اتفقوا قبل بضع سنوات على أن يقدم كل شخص يتلقى بطاقة دعوة إلى حفل زواج مبلغا من المال إلى العريس (المعرس كما يسميه بعض أهل الخليج). بينما هذا تقليد راسخ في السودان منذ مئات السنين في بيوت الأفراح والمآتم. فكل من يأتي إلى حفل زواج أو بيت عزاء يسهم قدر طاقته في الحفل بمبلغ من المال أو هدية يتم تسجيلها في دفتر.. واستخدام دفتر لقيد تلك المساهمات يؤكد أنها –أي المساهمات– إلزامية، فكما تتلقاها عليك أن تؤديها إلى كل من قدمها. (عند زواجي كانت حصيلة تلك المساهمات تقارب ما أنفقته من جيبي على الزواج. يعني طلعت ربحان، ولكن من قدموا تلك المساهمات «أكلوا هوا»، لأنني هاجرت إلى منطقة الخليج بعد الزواج ولم يتسن لي رد الصاع صاعين كاش عدا نقدا لمن دعموا مشروع زواجي بسخاء في أفراحهم أو أتراحهم. بالمناسبة إلى يومنا هذا فالمساهمة في تكاليف العزاء أمر إلزامي في معظم أنحاء السودان).
لم أسمع قط حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي أن جزءا من السودان يعاني مجاعة، بل أذكر جيدا أنه عند دخول مصر حرب يونيو (1967) ضد إسرائيل، أن جميع قطارات البضائع في السودان تم تخصيصها لنقل تبرع الحكومة السودانية للمجهود الحربي، من زيت وحبوب ومواش إلى مصر بمعدل نحو عشرة قطارات يوميا (كل قطار يتألف من نحو عشرين عربة طول كل واحدة نحو 10 أمتار).. كانت الحكومة توفر وجبات صحية ونظيفة لعشرات الآلاف من الطلاب في مختلف مراحل الدراسة، وكان السودان يقدم منحا دراسية لليمن والصومال وإثيوبيا. وكان معنا في جامعة الخرطوم طلبة وطالبات من بلغاريا وبولندا والولايات المتحدة وبريطانيا، فقد كانت تلك الجامعة في ذلك الزمان صنو جامعة كامبردج الشهيرة في بريطانيا، وكانت الشهادة الثانوية السودانية تؤهل حاملها لدخول «أجعص» جامعة في بريطانيا ودول الكومنولث البريطاني.
هل تصدق أن نظام المعلومات الجغرافية GIS كان مطبقا في الخدمات البريدية في السودان قبل اختراع الكمبيوتر. فقد كانت كل مجموعة متلاصقة من البيوت تسمى «مربع» وتحمل رقما، ولكل بيت رقم خاص معروف لدى كل العاملين في القطاعات الخدمية وكان ساعي البريد يوصل الرسائل والبرقيات إلى كل بيت بموجب تلك الأرقام، وكانت هناك زائرات صحيات يدخلن البيوت ليتأكدن من نظافتها، ونظافة دورات المياه على نحو خاص، وكانت السلطات المحلية تمنح كل بيت مادة مطهرة اسمها الفنيك ومعه بخاخ اسمه الفليت للقضاء على الحشرات الطائرة، وكانت كل البيوت في جمهورية السودان تخضع لحملة رش مبيدات مرتين في السنة، وكان في كل بلدة صغيرة عامل مهمته رش البرك منعا لتوالد الناموس.
وفي كل المدن كانت هناك محطة للتاكسي بها تلفون ويستطيع كل راغب في استدعاء سيارة تاكسي إلى حيث يشاء… واليوم تسرح في شوارع الخرطوم تكاسي من بقايا جيش أبرهة وتذكر أن التاجر لا يقلب دفاتره القديمة إلا بعد أن يفلس.