عبد الجليل سليمان

أغاني الطير في السودان


في إحدى الليالي، كنا نتحلق حول طاولة العشاء. كُنا اشتغلنا إلى وقتٍ متأخر، وكان مزاج بورخِس تآمريًا عندما قال: “هل تفهم أغنية الطير؟”. قلت: “لست القديس فرانسيس”، لكن هل تقصد جمال اللحن؟”، قال: “كلّا. الكلمات. اللغة. لابُدّ أنها تقول شيئًا. هل تظُن أن الطيور تصدر كل تلك الأصوات من أجل لا شئ؟”، قررت أن أفاجئه قليلاً: “هل تفهم نحيب العندليب؟”، فجعني: “في الواقع أنا ميّال للاستماع للغربان”. كل ما سلف اقتباس من كتاب ويليس بارنستون، المعنون مع بورخِس، مساء عادي في (بيونس آيس)، الصادر عن دار المدى بترجمة دكتور عابد إسماعيل.
والحال، أن أغاني الطير بعيدًا عن النقاش الذي دار على طاولة الشاعر الأرجنتيني (بورخس) تبدو وكأنها من كلمات وألحان وموسيقى أي أحد (من طرف ساي) من السياسيين السودانيين المخضرمين والراهنين، كلهم يغردون ويزقزقون ويشققون ويصيحون وينقِضون (الإنقاض هو صوت الدجاجة)، وينعقون ويزمرون، لغة لا يفهمها من البشر إلا من أوتي ما لم يؤت لأحد غيره، أو أن يكون (سُليماني) كبورخس، يفهم لغة الطير وأغنياته.
ما لا شك يجتاحه فيّ، هو يقيني بأن أفضل من يغني أغاني الطير في هذه البلاد هي الحكومة، تليها مباشرة المعارضة، ثم من يسمون أنفسهم بالنُقاد في أي مجال، خاصة الغنائي، يزاحمهم في هذا المركز المتقدم المحللون السياسيون (الله لا وراك ليهم لمن يظهروا في الفضائيات الكبيرة)، يبزون الطير غناءً ويفوقونه أدءً فيجعلونك آذانك المشرعة مشنفة وشانفة بلحونهم الطيبة.
أما النقاد، فغناؤهم عجيب، سحر مشوب بعطر، عطر منخرط في السحر، لا أحد قرأ لهم يومًا كتابة نقدية جادة، كتلك التي نقرأها في الصحافة العربية أو غيرها، مثل ذاك المقال الموسوم بـ (الطاقة التعبيرية في صوت كاظم الساهر) المنشور في إيلاف الإلكترونية (2008)، دعك عن اجتراح دراسات عميقة كـ (المنسي في الغناء العربي) للأردني زياد عسّاف، فذلك (كثير جدًا)، هنا يغنى النقاد غناءً طيريّا بديعًا “لابس بنطلون بمبي وحالق خلاقه ما ياها، ومكترة المكياج وطرحتها واقعة”، يستغرقون في الشكلانيةّ ويسطحون الأمور بطريقة مثيرة للرثاء.
بالنسبة للسياسيين أتركهم، فهؤلاء طير لا يطير، وكأنهم من أشار إليهم درويش بقوله “الناس طير لا تطير”، فغنائهم نعيق، وايقاعهم زعيق وخطابهم ركيك، وأدائهم مرتبك، وصاحبنا بورخِس يغني لهؤلاء الطير “الآن أنظرُ.. إلى عالمٍ عزيز يتداعى مثل زبالة تحترق، بلا شكل، صائرًا إلى رماد شاحب غامض، كأنه النوم وكأنه النسيان”، ويأتي درويش إلى ختمتنا بقوسه المجيد “نسيان أمر ما صعود نحو باب الهاوية”. والهاوية التي نقف على حافتها يصنعها هؤلاء جميعًا.