يوسف عبد المنان

خربشات الجمعة


كرة القدم لا تعني مطلقاً الإمتاع البصري وإشباع الرغبة في الفن الذي يجسده تداول الجلد المدور بين أقدام لاعبين مهرة.. يمتعون المشاهد بالرقص على حناجر الجماهير، ولكن كرة القدم اليوم هي المال والثروة الطائلة والثقافة والتجارة والتماذج بين مكونات شعوب الكرة الأرضية.. وانصهار الألوان البيضاء والسمراء والسوداء داخل المستطيل الأخضر.. ومتابعة الدوريات الأوروبية والأمريكية واللاتينية الجنوبية ليست ترفاً فقط لإشباع العين في عالم كرة القدم الذي ألغي الحواجز والحدود الجغرافية وحقق مقاصد العولمة في وحدة الكرة الأرضية.. ووحدة الشعوب.. وإلغاء الحدود والفواصل والفوارق ونبذ التمايز والقطرية القديمة.. وكلنا شاهد في كأس العالم الأخير الذي أقيم في البرازيل حينما واجه “برنيس” الغاني الجنسية شقيقه “بواتيخ” الألماني أشقاء من أم وأب، أحدهمااأختار الانتماء لأصوله الأفريقية وآخر اختار الانتماء لجنسيته الألمانية.. وقد هزمت ألمانيا دولة غانا وتبادل الشقيقان التحايا.. ولكن (كل واحد في طريقو) كما يقول الشاعر “محمد علي أبو قطاطي”.. وعولمة كرة القدم جعلت المال الخليجي العربي يغزو أوروبا سلماً ويصبح “ناصر الخليفي” القطري الجنسية هو مالك أكبر نادٍ في فرنسا (باريس سيرنجمان) وبفضل إنفاق القطريين على النادي الباريسي الهوية العربي الملكية استطاع النادي الحصول على بطولة الدوري الفرنسي لخمس سنوات متتالية والمنافسة على دوري أبطال أوروبا وهزيمة فريق الملياردير اليهودي الروسي الأصل “إبراهميوفتش” وهي الهزيمة الأولى التي يحققها العرب في مواجهة اليهود منذ حرب 1967م.. ولكن في ميدان كرة القدم.. والنادي الإنجليزي شلسي لا يخفي مالكه الروسي ميوله الصهيونية، ولذلك استعان في فترة ما بالمدرب الإسرائيلي فيرام ولاعب الوسط الإسرائيلي بن شلعون، ولكن مشجعي نادي شلسي أي (البلوذ) لا ينظرون لهوية وعقيدة المالك ولا ديانة لاعبي الفريق بقدر ما ينظرون لعطاء الفريق في الميدان وقدرته على تحقيق النتائج التي تروق للمشجعين، مع أن الإنجليز في ثقافاتهم يرتبطون بتشجيع الأندية بغض النظر عن موقعها في البطولات، وكان فريق ليدز يونايتد من أكبر الأندية جماهيرية في إنجلترا وحاقت به المصائب والمحن وتدنت نتائجه في (البريمرليق) حتى هبط للدرجة الثانية فانتقلت الجماهير معه لدوري الدرجة الثانية.. وهبط للدرجة الثالثة ولا تزال تلك الجماهير مرتبطة بالنادي العريق، فالإنجليز بتقاليدهم وإرثهم متمسكون بتاريخهم وذاتيتهم ولغتهم وقد أسقطوا دولتهم من منظومة الاتحاد الأوروبي من خلال استفتاء شعبي بسبب الاعتداد بالنفس وبغض اليمين البريطاني للمهاجرين.. ورفضه حتى لشعوب أوروبا الموحدة مثل اليونانيين والأتراك الطامحين في الاندماج أوروبياً.. ولكن إنجلترا بحسابات خاصة جداً تركت الجمل بما حمل واتجهت نحو الانكفاء على نفسها لتعيش عزلتها الخاصة رغم إن الدوري الإنجليزي الممتاز هو الأكثر شعبية وجاذبية من كل الدوريات الأوروبية بما في ذلك أسبانيا التي بسطت سيطرتها على دوري أبطال أوروبا وكأس الاتحاد الأوروبي من خلال احتكار الأندية الأسبانية البطولات سواء كان برشلونة أو ريال مدريد أو حتى أشبيلية الذي أذاق الإنجليز الويل والثبور وهزمهم في المباراة الشهيرة بين ليفربول وأشبيلية في نهائي الكأس الشهر قبل الماضي.
(2)
برزت في بطولة اليورو الحالية دول صغيرة وهزمت بلداناً كبيرة.. وقد خرجت بريطانيا بكل نجومها.. وبريقها ومالها ومشجعيها الذين رحلوا إلى فرنسا لمتابعة مباريات المنتخب الإنجليزي وقدر عدد الإنجليز في المدن الفرنسية بنحو (300) ألف مشجع ومشجعة طبعاً.. ولكن خرجوا على يد دولة آيسلندا التي يبلغ مجموع عدد سكانها (400) ألف نسمة هؤلاء أقل من سكان مدينة الحصاحيصا بولاية الجزيرة ولكنهم الآن دولة لها برلمان ورئيس وشرطة ولكنها لا حاجة لها بالجيش لأنها دولة محمية بغيرها من الأوروبيين.. وعادت دولة بلجيكا لتنافس الكبار من خلال مزيج من اللاعبين ذوي الأصول الأفريقية والعربية واللاتينية والأوروبية.. وبروكسل التي أتخذها الأوروبيون مقراً للاتحاد تعرضت لهجمات من قبل المتطرفين ذوي الأصول العربية المغاربية، ولكن الدولة التي تؤمن بأن التعدد في السحنات والثقافات والأعراق مصدر قوة لا مصدر ضعف كما يعتقد البعض، يدافع عن ألوان المنتخب البلجيكي اليوم “مروان فلاقيني” ذو الأصل المغربي وكذلك “ناصر الشاذلي” المغربي الجنسية.. والجناح “أريوولي” هو من أصول كينية ويلعب في فريق ليفربول ووالده كان لاعباً في منتخب كينيا.. وفي المقدمة الأمامية يوجد الثعلب الكنغولي “لوكاكو” المنتظر انتقاله من فريق “أيفرتون” إلى نادي السيدة العجوز والإيطالية “جيفنتوس” ورغم أن مشاعري الخاصة سالبة جداً عن البلجيكيين لأسباب نفسية حيث تلوح صورة البطل باتريس لوممبا الذي تعرض للخيانة والقتل من قبل البلجيكيين وبعض عملائهم في دولة الكنغو التي نُهبت ثرواتها ووُئدت أحلامها.. ولكن الآن ينشط في الدفاع عن ألوان المنتخب البلجيكي ثلاثة لاعبين من أصول كنغولية.. بالإضافة إلى اللاعب الماهر الفنان الحاذق لكرة القدم “أيدن هزار” الذي تعود أصوله إلى دولة البرازيل حيث النبوغ الفطري لكرة القدم.. واليوم في البطولة الأوروبية هناك عدد كبير من اللاعبين أصولهم برازيلية مثل “رونالدو” البرتغالي وكذلك المدافع “بيبي” والمهاجم الإيطالي (دابير) الذي اغتال الأسبان في الدقيقة الأخيرة بهدف ثانٍ جعل إيطالياً تفرح من روما وحتى نابولي المدينة التي انتشلتها كرة القدم من مستنقع الجرائم والمخدرات والعصابات.. ويعود الفضل في ذلك إلى لاعب كرة القدم الأرجنتيني الفذ “ديغو ماردونا” الذي حينما حط طائره في فريقه نابولي الذي يمثل جنوب إيطاليا الفقير جداً مقابل الشمال الغني.. أخذ الشباب يتجهون للعب كرة القدم والانصراف عن تجارة المخدرات ومستنقع الجنس.. وكان “ماردونا” بأهدافه التاريخية مثالاً وقدوة لمدينة نابولي وربما لهذا السبب التاريخي استعانت مدينة نابولي بلاعب أرجنتيني آخر موهوب في إحراز الأهداف.. اسمه “هيجوابين” لكنه أضاع بلاد الأرجنتين في مباراة شيلي الأسبوع الماضي وهو يهدر هدفاً في مواجهة حارس برشلونة “برافو”.. وخرج “هيجوابين” بعد إضاعة الهدف من أجواء اللقاء الذي استطاع الشيليون بلد الأصداف والعنب والتفاح أن يوقعوا بالأرجنتين في مستنقع اللعب العنيف والاندفاع البدني فضاعت مهارة “ميسي” وتاه النحيف الحريف “لافتندي”.. وأهدر “ميسي” ضربة جزاء فزرف الدموع ودموع “ميسي” جعلت الملايين يزرفون دموعاً في ذلك الصباح الباكر والأرجنتين تخسر المباراة النهائية لبطولة كوبا أمريكا.
(3)
أين نحن في السودان من التطور الثقافي والفكري والاجتماعي لكرة القدم.. وسألت الأخ الأستاذ “عبد الماجد عبد الحميد” المثقف كروياً أكثر من “مزمل أبو القاسم” الذي يعتبر الآن الصحافي الرياضي الأول في السودان ولكن “عبد الماجد عبد الحميد” في الرياضة العالمية يعتبر مرجعاً لمتابعته الدوريات الأوروبية وعشقه لخطط المدربين الأفذاذ من “غارديولا” إلى الساحر الألماني “يورغن كلوب”.. الذي حينما سألته صحيفة الديلي تلغراف البريطانية عقب توليه مهمة تدريب كبير الإنجليز (ليفربول) من أنت؟ فقال أنا الرجل العادي (فورمال مان) في إشارة إلى غطرسة البرتغال “مورينهو” الذي يصف نفسه بالرجل الاستثنائي، والصحافيون الرياضيون في بلادي بعيدون جداً عن ما يجري في العالم الخارجي وتشغل أغلبهم صراعات الأقطاب والانشغال بخزائن “الكاردينال” وجيوب “جمال الوالي” ولا يرهق لاعبونا أنفسهم بتطوير قدراتهم من خلال المشاهدة فقط لمباريات الدوريات الأوروبية، ومن يدخل نادي الهلال والمريخ يجد رواد النادي يتحلقون حول طاولات الكوتشينة والضمنا ولا أحد يشاهد المباريات إلا العابرين أو العمال الذين هم أعمق رؤية من رؤساء أنديتنا الرياضية فيما يتصل بكرة القدم.
وكل جمعة والجميع بخير.