“الإنقاذ” من الانقلاب إلى الإمساك بمفاصل الدولة
بالأمس استعرضنا الأوضاع السياسية والعامة في السودان ما قبل الثلاثين من يونيو 1989م، ومدى ما وصلت إليه الأحوال من سوء بعد تردٍ مريع في الخدمات وهبوط في أسعار العملة الوطنية أمام الدولار، وفوضى في الأسواق وهجرة بل نزف من الريف إلى المدن، وهجرة من البلاد إلى كل أنحاء الدنيا، وفوق هذا وذاك صراعات سياسية أوشكت أن تورد البلاد موارد التهلكة.
في بدايات عهدها، وجدت الإنقاذ تأييداً شعبياً واسعاً رغم صرامة قسمات النظام الجديد، لكن قادته كما كان يراهم الناس، كانوا الأقرب إليهم، يقيمون معهم في الأحياء الشعبية، والعشوائية، ويقيم بعضهم في أطراف المدن، وكان برنامجهم الأعظم هو حماية الوطن وإنقاذه من الدرك الذي وصل إليه، ولكن هل ظل المواطن على ذات تلك القناعات، وهل ظل على ذات طريقة التأييد للنظام الجديد، الذي ابتدع وسن مبدأ الجهاد في سبيل الله والوطن السودان من غير القوات المسلحة والنظامية؟
لم يبق الناس على ذلك كثيراً، بعد أن فتنت السلطة الكثيرين من إخوان الشدة والشظف، وبعد أن ظل طاقم الحكم واحداً لا يكاد يتغير، وبعد أن شعر المواطن أنه لا صوت إلا صوت الإسلاميين أو صوت من ينتمون إلى المؤتمر الوطني الواجهة السياسية للحركة الإسلامية. نعم، حدثت تحولات كبيرة في المجتمع أبرزها ظهور البترول الذي ظن البعض أنه لا ينضب وأنه بات إلى الأبد، إلى أن حدث التحول الأكثر تأثيراً على البلاد والعباد بانفصال جنوب السودان، الذي أصبح دولة غير مستقرة تصدر مشاكلها وناتج كوارثها إلى السودان الذي يدفع ثمن كل ذلك، بينما يزيد حكام دولة جنوب السودان عليه بالدعم المباشر وغير المباشر لكل من حمل السلاح في وجه السلطة بالسودان.
الآن مرت سبعة وعشرون عاماً على انقلاب الثلاثين من يونيو 1989م، ومر النظام نفسه بعدة مراحل وتطورات انتهت بالمفاصلة داخل النظام والانقلاب على عرابه الأول الشيخ “حسن الترابي” – رحمه الله – الذي أراد الإمساك بكل الخيوط، لكنها تداخلت بين يديه، فأفلتت منه أواخر العام 1999م، وأصبح الرجل ومشايعوه في خبر كان السياسي، لتشهد المرحلة التي تلته انفتاحاً على القوى السياسية الأخرى، تحديداً قوى الوسط من حلفاء الأمس السياسيين، لكن المحاصصة والمشاركة لم تكن مرضية للقادمين أو لقياداتهم فانشقت تلك القوى وتشرذمت وتقسمت وكادت ريحها أن تذهب، ولم يسعد النظام في السودان كثيراً بتوقيعه لاتفاقية السلام الشامل، عام 2005م، في كينيا، إذ سبقتها ثورات مسلحة عنيفة في دارفور غزاها من كان بعضهم جزءاً من نظام الحكم.نكاية في إخوانهم الذين فرقت بينهم السلطة،لكن الذي تأذى لم يكن نظام الحكم بل الذي تأذى كان هو الوطن بأكمله وتداخلت ظروف خارجية عصية لإضعاف النظام وإسقاطه لكنها كانت عقوبة مشددة ضد الشعب السوداني لا ضد نظام الحكم.
انتهت الإنقاذ في المرحلة السابقة إلى ضرورة الإصلاح والتغيير، لكن الأجيال الجديدة تريد أن ترى نفسها في المشهد السياسي كاملاً، وأن تشعر بأنها تملك مفاتيح التغيير الهادئ عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة التي لا تمنح الحاكم أكثر من فرصتين على الأكثر للحكم، حتى تكون القيادات الوليدة صانعة للحدث، وتكون الأجيال الحديثة فاعلة في ذلك الحدث بعيداً عن انفعالات العامة التي تصرفهم للجدل والخطل والتخبط في غياب أهداف عامة يتفق عليها الجميع.
الآن تلوح في الأفق بوادر تغيير جديد، تغيير يقود إلى تفاعل راشد مع الحاضر والمستقبل من خلال الاعتراف الكلي بالآخر والتحاور معه، لأن هذا إن حدث فإنما يعمل على قيمة الطموح الوطني العام ويقوي روح الجماعة.. والقبول بالنتائج التي يختارها الناس (عموم الناس) حتى وإن جاءت في غير صالح الحاكمين من أهل الإنقاذ، ليؤكدوا على أنهم أصحاب روح سياسية (رياضية) تقبل الخسارة مثلما تقبل الفوز.
الإنقاذ لم تحتفل بعيدها السابع والعشرين، ليس لأنها ذابت أو غابت أو انتهت، لكنها في فترة مراجعة وفق ما يبدو لنا، مراجعة عامة للسياسات والأهداف والمناخ والأساليب التي تجعل العدالة هي الغاية والمساواة هي الهدف الأسمى بعد أن كانت العدالة تسير دائماً فوق أكتاف الفقراء والمساكين وأبناء السبيل.. وللشعوب ذاكرة حاضرة وهي لا تنسى من (ينقذها) في الأوقات العصيبة، ولا تنسى من يتركها في المواقف الصعبة ولا من يضعها فيها ليصبح المواطن مهضوم الحقوق مكلوماً مظلوماً محروماً، فالحس الشعبي بالرضا والسخط هو الذي يدفع بالأنظمة السياسية إلى الأمام أو يوقفها عند حدها، فالطريق الذي تختاره الشعوب دائماً هو الذي يقود إلى الاتجاه الصحيح حتى وإن كانت تنتصب في مدخله لافتة تقول (ممنوع الدخول).