مصطفى أبو العزائم

لماذا بقيت الإنقاذ حتى الآن؟؟

لم تحتفِ أجهزة الدولة الرسمية بالذكرى السابعة والعشرين لاستيلاء مجموعة الإنقاذ على السلطة بالسودان في الثلاثين من يونيو 1989م وإن حركت الصحف أمواج تلك الذكرى في ذاكرة الكثيرين ممن شاركوا في نجاحها، أو في تثبيت أقدامها، مع وقفات (ضوئية) عابرة عن بدايات الانقلاب الأطول عمراً حتى الآن في تاريخ السودان، من خلال قلة قليلة من الفضائيات السودانية الخاصة، استضافت بعض صناع الحدث الذين غابوا عن المشهد الآن، أو بعض المحللين السياسيين للحديث عما كان أو عما يمكن أن يكون من واقع قراءاتهم للأحداث الظاهرة أو تلك التي يمكن أن تحدث مستقبلاً.
ومع ذلك لم يخل مجتمع أو جمع في صالون أو مناسبة خاصة، أو حتى في الجلسات الشعبية على الطريق العام، أو حول (دكاكين) الأحياء أو داخل المركبات العامة، لم يخل أي من تلك المجتمعات أو التجمعات عن استحضار ذكرى أحد أخطر أيام السودان السياسية الذي قاد إلى تغييرات وتحولات ضخمة وكبيرة من كل الاتجاهات، سلباً وإيجاباً.. ولم تعد ذكرى الثلاثين من يونيو 1989م، ذكرى منسية كما أرادت لها الحكومة أو السلطة القابضة، التي قد تكون لها أسبابها ومبرراتها وتقديراتها السياسية، بل أصبحت ذكرى ماثلة وقائمة في العقل السياسي والشعبي على السواء.
في نقاش عام وبعد منتصف ليل أحد الأيام الماضية سألني أحد الأصدقاء عن الأسباب التي أدت إلى بقاء (الإنقاذ) حتى يومنا هذا رغم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها، وتحاول أن تسد عليها منافذ الهواء، وتقطع عنها كل ما يمكنها من الاستمرار!! والسؤال مشروع والإجابة مشروعة أيضاً رغم صعوبتها، لكن المسؤول حاول أن يجيب بحسبان أنه أحد المراقبين للحراك السياسي العام في البلاد.. وبحسبان أن حكمه يأتي من داخل إطار الوطن لا خارجه، ومع ذلك فإن الإجابة ستكون مجرد اجتهاد مبني على قراءات تحتمل الخطأ والصواب للواقع السياسي العام في البلاد.
شارك أكثر من شخص في الإجابة عن ذلك السؤال، لكل وجهة نظره الخاصة، وكانت الخلاصة أن هناك تحالفات غير مرئية أو غير معلنة، أو تحالفات طبيعية بين كل طيف اليمين السوداني المرتكز على قاعدة الإسلام، وأن هذا الطيف نجح في اجتذاب كثير من عناصر الوسط في الحراك السياسي، وأن هذا التحالف قديم، بل قديم جداً، قاد من قبل إلى إنشاء الجبهة الوطنية السودانية، على عهد المعارضة المعلنة لنظام الرئيس الراحل “جعفر نميري”، الذي جاء إلى السلطة على صهوات حصان اليسار، ومساندة القوى السياسية الأخرى التي ترى أنها تقدم طرحاً دينياً متقدماً وجديداً يتجاوز الطرح القديم.
يستند نظام الإنقاذ الآن على تحالفات تريحه إذ استطاع أن يضع يده على يد العديد من المنشقين على الأحزاب التقليدية القديمة (الأمة والاتحادي) ومع بعض قيادات ومكونات هذه الأحزاب على مستوى التأثير الأكبر (السيد “محمد عثمان الميرغني” نموذجاً) أو على مستوى القيادة الأرجح للحزب في حالة السيد اللواء “عبد الرحمن الصادق المهدي”.
استعاد النظام تماسكه العقدي بعد المصالحة بين المؤتمرين الوطني والشعبي، وتطابق وجهات نظر المؤتمرين حول قضايا الحوار والمعالجات الداخلية والخارجية التي أدت إلى انفتاح في المحيط القريب والإقليمي إلى حد كبير، رغم الحصار المعلن على النظام من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها ثم التحرك صوب “بكين” و”موسكو” بما أدى إلى كسر طوق الحصار نسبياً بالقدر الذي أزعج متخذي قرار المقاطعة والحصار.
وهناك سبب آخر يتمثل في ضعف الحركات المسلحة المتمردة على السلطة بعد أن عاشت أحلاماً وردية عقب انفصال جنوب السودان وتحوله إلى دولة، لكن حلم الدولة الوليدة تحول إلى كوابيس مزعجة للحاكمين والمحكومين فيها، وفقدت المعارضة المسلحة الدعم وتوفير منصات الانطلاق، مثلما فقدت دعم الخارج أو كادت تفقده بعد تحالف الخرطوم مع عدد من العواصم الغربية لمحاربة الإرهاب وتهريب وتجارة البشر، وهما قضيتان تشغلان مراكز صنع القرار في أوروبا والغرب بأجمعه.
لم يصبح من معارضة فعلية متماسكة ضد النظام سوى اليسار الذي تتراجع عضويته يوماً بعد يوم ليس في السودان فحسب بل في كل الدنيا مع معارضة مسلحة تعاني من الانتكاسات مرة تلو أخرى، وترى أن الشارع العام لا يتجاوب مع طرحها الداعم للحركة الشعبية (شمال) وبعض الحركات المسلحة لأن الذاكرة الشعبية لا زالت تحمل صورة أحداث (غزوة أم درمان) التي قادها مؤسس حركة العدل والمساواة ورئيسها الراحل الدكتور “خليل إبراهيم”.
والمساحة لا تكفي.. وكما تقول الأمثال (يا ما في الجراب يا حاوي) وبقيت الإنقاذ لأن الله عز وجل لم يكتب نهايتها بعد.