جعفر عباس

الإجازة ما بين الترويح والهمِّ والوغم


يفترض أن الإجازة تسبب راحة البال والجسم، ولكنها تحولت إلى عبء ذهني ومالي وبدني: أين نذهب هذه السنة؟ وكيف نوفر المال اللازم للذهاب إلى (هناك)؟ وفي هذه السنة والعام الفائت صادف موعد الإجازات الصيفية وموسم الهجرة إلى الشمال والغرب والشرق حلول شهر الصوم الفضيل، فمنع الحياء معظم أنصار الهجرة الموسمية إلى مدن الانفتاح والانشكاح من السفر: ما يصير نروح هني وللا هني في رمضان (وكأنما ما هو غير مباح في رمضان في تلك المدن مباح في غير رمضان).
المهم، يتم توفير المال للهجرة الصيفية خصما على نفقات بقية أشهر السنة، وتذهب جماهيرنا الفاضلة إلى حيث تريد أن تذهب وتقضي الإجازة بطولها في حال لهاث ما بين المطاعم والأسواق، وهناك سيناريوات كثيرة للإجازة، أقربها إلى النفس أن يقضي الإنسان الإجازة في بلد متفق عليه مع أهله، أو على الأقل مع أسرته الصغيرة (كثير من الخليجيين يسافر كمجموعة عائلات تربط بينها القرابة أو الصداقة، محملين بحقائب تعطيك الانطباع بأنهم قرروا الهجرة من بلدانهم والإقامة الدائمة في «البلد السياحي»، ومصاب الخليجيين في السفر خارج بلدانهم يماثل مصابنا نحن أهل السودان لأننا مطالبون بشراء هدايا للأقارب والجيران، وقبل نحو شهر سافرت من قطر إلى دبي يوم الخميس وعدت يوم الجمعة وفور دخولي البيت سألتني زوجتي: جبت لي شنو؟ فقلت لها: جبت لك سندويتش شاورما ولكن رجال الجمارك صادروه لانتهاء صلاحيته، فقالت بكل رقة وحنان: الحمد لله ما صادروك لنفس السبب).
وبالنسبة الى شخص مثلي يعيش خارج وطنه، فإنّ أي سفرة تتطلب شراء أطنان من الملابس الايطالية والفرنسية المصنوعة في تايوان وتايلند ودفع قيمة ترحيلها بالطائرة، وهناك في أسواق الخرطوم والقاهرة وعمان ملبوسات في منتهى الجمال وأسعارها تكاد تكون نصف أسعارها في منطقة الخليج ولكن يا ويل المغترب الذي لا يعود بهدية (خليجية)، فالعيون تلاحقك حتى تفتح الحقائب وتتأكّد من أن الهدية جاءت من الخليج. والغريب في الأمر أن أهل الخليج يعكسون الأمر فمن يقضي منهم إجازة في بلد أجنبي مطالب بشراء هدايا من ذلك البلد، ولن يفلت من اللوم حتى لو اشترى لهذا أو هذه هدية فاخرة من السوق الخليجي المحلي، فالعبرة هي أن تكون الهدية من (الخارج)!! بعض السودانيين يحسبها ويقول: بدلاً من قضاء الإجازة في الوطن، أستطيع بكلفة الهدايا للأهل والأصحاب اصطحاب العائلة إلى أي بلد أجنبي وينطلق إلى البلد الأجنبي، وسبق لي أن (حسبتها) بتلك الطريقة وذهبت إلى بلاد أجنبية واستمتعت بالتجوال فيها ولكن المحصلة النهائية في كل الإجازات هي أنك تبدأها مرهقاً وتنتهي منها منهكاً.
قبل سنوات قررت زيارة بلد أجنبي مع عائلتي، وقبل السفر بأيام قال لي ولدي وكان عمره وقتها نحو ثماني سنوات: بابا ما مفروض أمي تعمل أي حاجة في الإجازة! طلبت منه إيضاحاً، فقال إن أمه تعمل طوال أيام السنة ولا تتمتع حتى بإجازة أسبوعية، وإنه من حقها أن ترتاح خلال الإجازة فلا تشيل هم الطبخ والغسيل والنظافة، وكي يوضح الأمر أكثر أضاف أنه يعني ألا نسكن شقة مفروشة كي لا تكون أمه مطالبة بأي من أمور البيت المعتادة! قلت في سرّي: خذوا الحكمة من أفواه المفاعيص (ومفردها مفعوص أي (مضغوط)، وهو الشخص صغير الحجم وتطلق الكلمة عادة على الطفل ولكنها تطلق مجازا على الكبير في السن بقصد التحقير).
وهكذا اتخذت من تلك السنة قراراً بأن تكون الإجازة السنوية فترة راحة وتدليل لأم الجعافر التي هي أم العيال. ولأن الخيال واسع وطويل، والجيب (ضيِّق) فقد صرت أقنع زوجتي بأن تأخذ إجازة بالتوجه إلى أهلها في السودان لتشبع وتَبِل شوقها منهم مزودة بالملابس المغشوشة، ولدينا لحسن الحظ في العاصمة القطرية الدوحة سوق اسمه (الخميس والجمعة) تباع فيه الملابس بطريقة (من يشتري قميصين يأخذ نظارة طبية مجاناً.. من يشتري فستانين وبلوزة يشترك في سحب على صندوق جوافة).