جعفر عباس

اجعلوا المدارس أماكن للمرح والفرح


ما كرهت شيئاً في حياتي ككرهي المدرسة، وفرحت ونططت بعد قبولي في الجامعة لأنّ ذلك كان إيذاناً بانعتاقي من «المدرسة» والبهدلة والإذلال والهم والغم والنكد، فقد كان أولياء الأمور على أيامنا يعتقدون أن المدرسة التي يمارس فيها المعلمون ضرب التلاميذ على نطاق واسع هي الفضلى، صحيح أن معظم المدارس في معظم بلداننا لم تعد تمارس الضرب، ولكنها تظل بغيضة إلى نفوس التلاميذ بسبب المناهج المملة والأعباء اليومية الطويلة والمرهقة: يعود التلميذ إلى البيت ليمضي فيه بضع ساعات وهو يحل المسائل الرياضية ويؤدي الواجبات المدرسية وإلا يا ويله في اليوم التالي.
أكثر ما أطربني من أمر قبولي في الجامعة، هو أنني سأتخصص فيها في مادة معينة، بعد غربلة مادتين أو ثلاث، بينما في المراحل ما قبل الجامعية يبدأ يومك -مثلا- بالكسور العشرية ويخرج المدرس بعد أن يكسر خاطرك ويأتي آخر بعده ليحدثك عن المحاصيل الزراعية في بوركينا فاسو، ويعقبه ثالث يتولى تعريفك بـ«كان» وأخواتها، ورفقا بك يقول إنه سيكتفي بـ8 منها، فتقول له إنك ما عائلة محافظة ولا تحب التعرف على «بنات» بالجملة أو أنك لم تعد تذكر سوى 3 من أخوات كان، فيكون الرد: بسيطة. احفظ قول ابن مالك: كـ«كان» أضحى ظل بات أمسى/ وهكذا أصبح صار ليس.
ولأنني نتاج نظام تعليمي عربي، وعملت مدرساً في إطار ذلك النظام البائس؛ فقد قررت أن أترفق بعيالي فألحقتهم بمدارس أجنبية: يصحو الواحد منهم مبكراً ويحرص على أن يكون بالمدرسة قبل بدء اليوم الدراسي بوقت كافٍ، وقد تقول للواحد منهم أن درجة حرارته مرتفعة وعليه أن يذهب إلى الطبيب فيقول: بعدين، في المساء. بعبارة أخرى هم يستمتعون بالوجود في المدرسة بل ويتضايقون من الإجازات الطويلة والسبب في ذلك.
اقرؤوا تجربة معلمة في مدينة الطائف السعودية التي قررت أن تجعل معظم النشاط اليومي بين جدران المدرسة لعباً منظماً تتخلله جرعات مقبولة من الدراسة على أن يخصص التلميذ جزءاً كبيراً من وقته الخاص للدراسة! بدأت التجربة بالصف الثالث الابتدائي، حيث تم تخصيص غرفة بالألعاب الإلكترونية واليدوية والوسائل التعليمية تحت شعار (أمرح وتعلم) فصار التلاميذ شديدي الحرص على التواجد في المدرسة ولم يعد التغيب بمختلف الأعذار الواهية معروفاً في تلك المدرسة.
آفة نظامنا التعليمي أنه يقوم على التجهم والصرامة والقتامة، فالمدرس يعتقد أن التبسط مع تلاميذه يقلل من شأنه وأن العين الحمراء والصرخات المرعبة: اسكت يا ثور.. اطلع بره يا غبي.. تكسبه الاحترام و(الهيبة)، وبالمقابل فإنّ المدارس في البلدان المتقدمة تحرص -وخاصة في المرحلة الابتدائية وما قبلها- على أن يكون اللعب والمرح عنصري جذب أساسيين، ومن ألحقوا صغارهم بحضانات ورياض أطفال أجنبية يعرفون كيف يتحمس أولئك الصغار لارتداء الزي المدرسي، وكيف يعودون إلى البيت ممتلئين حماساً ليحكوا عن يومهم البهيج، والغريب في الأمر أنهم يتلقطون اللغة الأجنبية التي تتعامل بها معهم المعلمة أثناء اللعب بسهولة من دون أن يتكبدوا عناء الواجبات/ الوظائف المنزلية.
التعليم في العالم المتقدم يقوم على ما يعرف بالـ edutainment وهي كلمة لن تجدها في القاموس لأنها هجين ومركبة من (إديو) وترمز إلى التعليم و(تينمنت) وترمز إلى الترفيه. وبهذا المزيج الجميل المدروس يتم شد الطفل وجذبه إلى المدرسة، والعجيب في الأمر أن المدارس الأجنبية تتبع نظاماً تربوياً صارماً خاصة فيما يتعلق بالسلوك والانضباط، ولا أذكر أن أياً من عيالي عاد يوماً ما من المدرسة مزوداً بمفردات وعبارات بذيئة، رغم أن أقصى عقاب في هذه المدارس هو الحبس detention لبضع ساعات ويكون بالحرمان من فسحة/ فرصة الفطور مثلاً نت دون الحرمان من الفطور نفسه.