أمير تاج السر .. رحيل المرح وشخصياته
منذ عدة أيام، رحل الممثل الإيطالي المخضرم بود اسبنسر، بعد عمر طويل قضاه في صحبة الفن، وكان من الذين ساهموا في إنتاج نسخ أوروبية من أفلام رعاة البقر الأمريكية، التي اشتهرت في فترة من الفترات، هي نهاية الستينيات، وبداية السبعينيات، من القرن الماضي، وخرج من إيحائها الخيالي إلى الواقع شخوص تسموا بأسماء أبطالها، وقلدوهم في المشي، والكلام والحب وقهر أعداء متخيلين.
كان خضر فضل الله، أو خضر ديجانقو، كما سمى نفسه، من تلك الشخصيات التي أذكرها، من أيام مدينة بورتسودان، في تلك الفترة، وقد ذكرته في كتاب لي اسمه «مرايا ساحلية»، كتبته عن طفولتي في تلك المدينة، ومشاهداتي التي ما زالت منقوشة في الذاكرة، كان طويلا، أسمر البشرة، ونحيفا، يرتدي سروالا ضيقا أسود اللون، وقميصا أبيض بكمين طويلين، يضع قبعة من السعف على رأسه، ويحيط خصره، بجراب من الجلد، داخله مسدس منحوت من الخشب، كان يبيع الطعمية، أو الفلافل، في كشك صغير أمام المستشفى، وله زبائن بلا حصر، من جميع الطبقات، ربما كانت تعجبهم فلافله، وربما شخصيته التي كانت تقمصا أخاذا لشخصية البطل ديجانقو، في كل أفلام رعاة البقر، ولا ينقصها، سوى كاميرا، وديكورات، وأعداء حقيقيين، ليقاتلهم البطل، وينتصر عليهم.
كان يتحرك بمشية ديجانقو، وهو يعجن الفلافل، ويلقيها على النار، ويخرجها، ويضعها في قراطيس الورق، ينتفض بحركة مدروسة، بين حين وآخر، يخرج مسدس الخشب من جرابه، ويصوبه نحو الخيال، مطيحا بعدو ما، ثم يعود إلى عمله.
كان شيئا فريدا، أن تشاهد مجنونا عاقلا بهذه الطريقة، والحقيقة لم يكن أحد يعرف إن كان ديجانقو الساحل ذلك، مجنونا فعلا، أم عاقلا، لأن معطيات العقل كانت متوفرة في رجل يعمل بكد، ويكسب رزقه بوقفته الطويلة، في ذلك الكشك، وإرضاء زبائنه كلهم، بإجادة الصنعة، ومفردات الجنون أيضا متوفرة، في واحد، يرتدي ملابس بطل خيالي، لا يغيرها أبدا، وينحت خشبا، يعلقه في خصره، بوصفه سلاحا فتاكا، ويقاتل الخيال هكذا.
كنا نقيم في جوار السينما والمستشفى معا، باب من البيت يطل على السينما، وباب آخر، يطل على المستشفى، وكانت الأمسيات كلها مشحونة بتفاصيل المدينة السوية والمعطوبة معا، السينما تجر الصراخ والمشاغبات، والشخصيات الغريبة، والمستشفى تجر المرضى الذين هم إما مرضى حقيقيون، وإما سكارى، وإما أشخاص بلا أي هوية، يتسكعون في درب مفتوح من دروب الحياة، وكانت ثمة سوق ممتدة بامتداد شارع المستشفى، فيها يبيع الناس ويشترون أي شيء. وحسبما أذكر، كانت السوق تزدهر أكثر بعد العصر، أي في موعد زيارة المستشفى المخصص. وبالإضافة لخضر كانت هناك شخصيات كثيرة، شاهدتها في ذلك المكان، ودونتها في المرايا الساحلية، والآن أذكر شخصية أخرى، استوحت نفسها من أفلام رعاة البقر، وهذه المرة، استوحت بود اسبنسر، الذي رحل منذ عدة أيام.
كان فيلم: «يسمونني ترينتي»، من تلك الأفلام التي اشتهرت، في تلك الأيام، وكان ترينتي، أو بود سبنسر، رجلا ضخما، قويا ومرحا، ودائما متفوقا على الآخرين بقبضته، وبقلبه الطيب الذي يتسع لعشق النساء.
كانت ثمة مواصفات من تلك التي يملكها سبنسر، متوافرة في جبريل، الذي يظهر متسكعا في ذلك المكان، ولا نعرف من أين يأتي، وإلى أين يذهب، بعد أن تنتهي ضجة المكان، وتغلق السوق، وتطفأ آخر اللمبات، في ليل السينما. كان جبريل ضخما فعلا، وطويلا فعلا، وقويا وعنيفا، ويفتعل المشاجرات، مع العابرين ليقوم بإنهائها بمزاجه، وهو يرفع قبعة الجلد عن رأسه الأصلع، ويردد: يسمونني ترينتي، ثم يحك لحيته الغزيرة، بأظافر طويلة متسخة، ويضيف، ويسكي.. تاكيلا.. حبيبتي إليزابيث.
بالطبع لم يكن ثمة مشروب أو تاكيلا، سيتذوقهما ذلك المتشرد، شبه المجنون، أو لعله مجنون بالفعل، ولا توجد حبيبة اسمها إليزابيـــث، يمكن أن تعشق مثله. إنه التأثر الأخاذ بسينما كانت شعبية المضمون، وشعبية الأبطال، وذلك جزء من تأثير الزمن الماضي، على حياة الأفراد، والحقيقة أن كل زمن يأتي بتأثيره ومؤثراته، والذين لم يعاصروا بود سبنسر، وترانــــس هيــــل، وكلينت أيستوود، وغريغوري بيك، وغيرهم من أبطال تلك الحقبة، لن يؤثر فيهم رحيل واحد مثل بود سبنسر، لكن قد يؤثر رحيل مغنية حديثة، أو لاعب كرة أسطوري من الجيل الجديد، وربما ممثل لأفلام من نوع آخر، لا نعرفها ولا نستطيع تذوقها.
لقد آلمني تعليق كتب تحت خبر رحيل سبنسر، في أحد المواقع، ذلك حين كتب أحدهم: هذا مثواه جهنم.
الخبر لم يكن معنيا بشيء من هذا، ولا من نشره، كان يتحدث عن تقوى أو ورع، كان يملكهما الممثل. نحن بصدد فنان قديم، ذي قيمة عالية، أضحك الملايين بفنه، في زمن كانت الثقافة مختلفة تماما، والحياة برمتها مختلفة أيضا، ولا شيء سوى المرح، بعيدا عن كل تطرف وإرهاب، بعكس ما يحدث اليوم، حيث أصبح التطرف في كل شيء ثقافة عامة، الذي على حق يتطرف فيه، والذي على باطل يتطرف، والآخر غير مقبول أبدا. كانت شخصيات مثل خضر، وجبريل، ليست سوية تماما، ورغم ذلك، لم يرفض أحد التعاطي معها، كلنا أحببناها، وصادقناها، واستمدينا منها المرح اللازم لاستمرار الحياة. والآن، ومع وجود كل هذا التجهم، في الدنيا، الذي يحجر على نشر خبر موت فنان، ويحمله البعض، ليفجروا به المساجد والأسواق، ورياض الأطفال، بلا أي ذرة من ضمير، فلا بد من تذكر أيام المرح تلك، ورثائها أيضا.
٭ روائي سوداني