عبد الجليل سليمان

علي عبد القيوم وعبد المنان


قبل أسبوعين يكتب أحدهم مقالاً رثائيًا فذًا على صفحات السوداني، ينعي فيه عالم الفلك وصاحب (الكون ذلك المجهول) أحد أشهر البرامج العلمية التي كان يبثها التلفزيون (القومي) لسنوات طويلة، وهو حي يرزق، فإذا بالدكتور أنور أحمد عثمان (الراحل/ المقيم) و(الحي/ الميت)، ينشر المقال الناعي لشخصه الكريم على صفحته بـ(فيس بوك) فتنهال التعليقات المصحوبة بقفشات وشتائم تلعن سلسفيل الصحافة السودانية. إلا أن الرثاء (الخاطئ) كان من وجهة نظري صادرا عن حب، ولولا ذلك الحب لما رثى الكاتب الرجل وهو حي يرزق ولما ذرف عليه الدمع مدارًا، إلا أن ذلك لا يعفيه من المسؤولية، وربما يجعلنا ننعته بالكسل، فكان الأحرى والأجدر به أن يتقصّى الخبر ويتحقق منه قبل أن يشق جيبه ويلطم خده، فالكتابة مسؤولية/ لا شك.
ذلك طيف، أخذه المتوفي افتراضًا مأخذًا ساخرًا، ومضى حتى ابتلعته الأسافير، إلا ما أدهشني وأصابني بخيبة أمل، هو مقال لـ(يوسف عبد المنان)، نشر الأسبوع المنصرم بأخيرة المجهر السياسي تحت عنوان (لا يليق بك)، تحدث فيه عن الشاعر الراحل المبدع (علي عبد القيوم) صاحب: “أي المشارق لم نغازل شمسها ونميط عن زيف الغموض خمارها/ أي المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها/ أي الأناشيد السماويات لم تشدد/ لأعراس الجديد بشاشة أوتارها”، واعتبر عبد المنان أن الراحل المقيم (علي عبد القيوم) مات منتحرًا في موسكو، فيما الرجل توفي في أم درمان وتم دفنه بمقابر البكري، يكتب عبد المنان: “لماذا انتحر الشاعر والأديب “علي عبد القيوم” في موسكو؟ هل بسبب سقوط النظرية الشيوعية وغروب شمسها أم لوصول الإسلاميين للحكم في وطنه السودان فاختار السقوط من شقة في بناية شاهقة، منهياً بذلك حياته العامرة بالمآسي والسجون وشظف العيش والقلق والكتابة والنحت على أوراق صفراء؟”.
بطبيعة الحال، لربما يتبادر إلى الذهن مباشرة أن عبد المنان يقصد الشاعر الراحل عبد الرحيم أبو ذكرى، الذي توفي منتحرًا – بحسب إحدى الروايات – في الخامس من نوفمبر 1989، بعد أن قفز من نافذة غرفته في الطابق الثالث عشر من مبنى (أكاديمية العلوم السوفييتية)، على رصيف شارع (أوسترافيتيانوفا)، لكن سياق الكتابة لا يشي بذلك، للأسف الشديد، فلم تكن حياة أيّ من الشاعرين كما وصفها يوسف عبد المنان، ثم إن (أبي ذكرى) كان مريضًا، وهذا معلوم لأي متابع للشأن الثقافي ولسيِّر الأدباء السودانيين، وبالتالي لربما لم يكن يعي حينها أن الإسلاميين انقلبوا على النظام الديمقراطي في السوداني، حيث أنه انتحر بعد ذلك بحوالى خمسة أشهر فقط، فيما تفكك الاتحاد السوفيتي في العام 1991م، أي بُعيد وفاة أبو ذكرى بسنة ونيف.
إلى ذلك، فلن يرتاح ضميري إن غادرت هذه المساحة دون الإشارة إلى رثائيات علي عبد القيوم، وضمنهم عبد الرحيم أبو ذكرى نفسه، فكتب: “تعلم أن طيور الذرى يا صديقي/ أضاءت بدمعات حسرتها كهف حزني/ وكأني بها قد تمنّت لو أنك أخبرتها/ لتهرع إليك ناشرةً تحت ظلِّك مشهداً من الريش والثلج والأقحوان”. كما رثى علي الملك بأبيات مؤثرة، منها: “هل يحيط الضريح بما فيك من لهف للحياة الجميلة؟/ كأني بصوتك قد جاءني خلسة/ يترنم ممتزجًا بنحيب الأرامل/ ويح قلبي المانفك خافق/ فارق أم درمان باكي شاهق/ ما هو عارف قدمو المفارق/ يا محط آمالي السلام/ ويأتيك رجع الصدي يا صديقي بصوت البلاد التي لا تنافق/ في يمين النيل حيث سابق/ كنا فوق أعراف السوابق/ الضريح الفاح طيبو عابق/ السلام يا المهدي الإمام”. والسلام يا عبد المنان، فـ(حوراني) لم يكن يشرب النبيذ في مقاهي باريس أيضًا.