جمال علي حسن

خرطوم النفايات الثلاث


مكب كبير للنفايات على شكل عاصمة!!.. هكذا باختصار يمكننا وصف (الخرطوم).. التي كانت يوما – بحسب الوقائع التاريخية – مدينة اللاءات الثلاثة!
حيث شهدت قمة اللاءات الثلاث أو قمة الخرطوم كما هو متعارف عليه.. بناء على مجريات مؤتمر القمة الرابع الخاص بجامعة الدول العربية، والتي عقدت في العاصمة السودانية في 29 أغسطس 1967 على خلفية هزيمة عام 1967 أو ما عرف بالنكسة. وقد عرفت القمة بهذا الاسم كونها خرجت بإصرار المؤتمرين على التمسك بالثوابت من خلال لاءات ثلاثة هي: (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض) مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق في فلسطين لأصحابه. وكان أن حضرت كل الدول العربية المؤتمر باستثناء سوريا!!
وهكذا حملت الخرطوم هذا اللقب طوال عقود متتالية من الزمن.. وحتى بعد أن ذهبت تلك اللاءات أدراج الرياح ظل اللقب متداولا.
بيد أنني أرى الآن أنه يمكن تعديله بما يتوافق مع الحاضر المعاش بعيدا عن أوهام الماضي البعيد.. فالشاهد أن النفايات الثلاث أصبحت أكثر مواءمة وواقعية.. نفايات (منزلية وصناعية وطبية)..!!!.. و(منزلية) هذه نعني بها تلك المرتبطة بحياة المواطن اليومية العادية وتدخل في زمرتها نفايات الأسواق والمؤسسات والمدارس وغيرها.
أما عن تلك الطبية القاتلة والصناعية المدمرة.. فحدث ولا حرج!!!.. وتمعن في المعنى المقصود، واستصحب كل ما تعرفه وما لا تعرفه عن مضار تلك النفايات وأثرها على صحة الإنسان والحيوان ومصادر المياه لا سيما النيل المقدس الذي تحول إلى مكب لمخلفات المصانع وغيرها مما أفقده جماله ونبله!
تلفت حولك الآن في جميع الاتجاهات بعد هطول الأمطار الأخيرة، ثم حدثني عن أكوام الأوساخ المتكدسة برائحتها النتنة التي تزكم الأنوف وترتع فيها نواقل الأمراض من كل نوع، وعن ذلكم المنظر القبيح الذي يؤذي العين ويوجع القلب ويحرض على الاستفراغ!
أينما حللت تجد (المحليات) تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه الأزمة المزمنة.. فبربكم ما قيمة الإنسان في (محلية) تعجز عن توفير بيئة نظيفة لعيش كريم؟!. وماذا ننتظر منها بعد إذا كانت تتركنا نهبا للأوبئة والأمراض والقبح والنتانة؟!
نعم.. أعترف بأننا نساهم بفاعلية في تفاقم الأزمة عبر سلوكنا غير الحضاري في كثير من الأحيان!.. وأن ثقافتنا البيئية المتوارثة ضعيفة وسطحية بالقدر الذي لا يجعل معظمنا كمواطنين على استعداد للمساهمة في إصحاح البيئة بعيدا عن التدخل الحكومي!
وأعتقد أنه بإمكاننا – حالما ارتفع معدل وعينا وتعاوننا وإنسانيتنا – إحداث تغيير واضح في ذلك المشهد القميئ لعاصمة يفترض أنها حضارية!
والأمر بالضرورة ينسحب على العديد من المدن الأخرى.. مع تقديري للعديد من المبادرات الأهلية الناجحة في نظافة العديد من الأحياء بعزم سكانها وشبابها !
إن النظافة في الأصل ثقافة وسلوك!.. وما لم نتوافق على الإيمان المطلق بحجم الضرر وضرورة إحداث التغيير المطلوب لا يمكن أن نحيا بكامل إنسانيتنا !
وعلى سبيل المثال. نحن نسكن في حي الشهيد (طه الماحي) بمنطقة جبرة جنوب حديقة الدوحة.. والذي يفترض أنه من أحياء الدرجة الأولى العامر بالقيادات والشخصيات البارزة.. وأقسم أنني منذ أن استأجرت منزلي هذا قبل عامين لم تزر عربة النفايات شارعنا سوى مرتين تاريخيتين!!. لذا نحيا الآن وسط القاذورات والنفايات بمختلف أنواعها.. وقد جأرنا بالشكوى لمحلية الخرطوم مرارا دون جدوى.. ثم حاولت بمجهود شخصي أن أشرع في نظافة الحي فلم أجد من الجيران المحيطين سوى اللامبالاة والبرود القاتل.. وها هم يكدسون النفايات في باحة الحي الصغيرة وأمام (الزاوية) التي يؤدون فيها صلواتهم تماما بدم بارد!.. وكلما شرعت – وحدي – في التعامل مع تلك الأكوام بالحرق تارة واستئجار (كارو) لنقلها بعيدا تارة أخري لم أجد منهم/ ن سوى الإمعان في تكديسها وكأن الأمر لا يعني أحدا!!
فعلى من تقع اللائمة؟…على الحكومة التي لم تتمكن من توفير المعينات والآليات والالتزام بنظافة المناطق؟.. أم على المواطن المتهاون والسلبي الذي يمعن في إحاطة نفسه بالقاذورات في انتظار معجزة المحليات؟!!.
أعتقد أن القضية مزدوجة.. تعني الطرفين بشكل متكافئ.. نحن نحتاج لتغيير سلوكنا البشري.. والمطالبة بحقنا في عاصمة نظيفة، والحكومة بالمقابل عليها أن تتعاطى مع أزمة النفايات بشيء من الحسم والجدية لاسيما وأن مدخلات جباية النفايات تعتبر مبالغ طائلة نرجو أن يتم توظيفها لصالح المصدر على الأقل!
وهكذا.. نظل بأمر حكومات المحليات.. وأمر سلبيتنا وتواكلنا، رازحين تحت وطأة الأمراض والقبح اللذين يناوشان صحتنا وإنسانيتنا بشكل مطرد وبلا أمل حتى إشعار آخر!
تلويح:
لعناية اللجان الشعبية.. والمحليات.. والمعتمدين.. والولاة.. وإنسان السودان أولا!