عبد الجليل سليمان

الإسلامويون والسلطة 1-2


ما يحتاج إلى شرح لا يحتاح إليه في حالة علاقة الإسلامويين بالسلطة، فهم حين يكونون خارجها يتوسلون إليها بطرق عديدة، يبتدرونها بتسويق أنفسهم، على أنهم حركات إصلاح اجتماعي وتوعيّة دينية ولا علاقة لهم بالسياسة، وأنهم يسلكون إلى ذلك الحكمة والموعظة الحسنة ويمارسون أنشطتهم (المدنية) تحت سقف العمل السلمي دون اللجوء إلى العنف، فيقتربون بذلك من السُلطة الحاكمة ويقدمون لها خدمات جليلة في سد ما تعجز عنه من تقديم الخدمات التعليمية والصحية إلى القطاعات والشرائح الاجتماعية الفقيرة، حيث تجد بيئة صالحة للترويج لخطابها الديني التعبوي، وتدريجيًا تقلب لهم ظهرًا وتشكل تحديّا سياسيا لهم، ثم رويدًا تسوء العلاقة بينهما إلى أن تصل حد العنف والعنف المضاد.
بطبيعة الحال، ونحن هنا بصدد تجربتين وصل فيهما الإسلامويون للحكم، وإن اختلفت وقائعهما وحيثياتهما وواقعهما، الأولى التجربة السودانية التي آلت إلى ما هي عليه الآن من أوضاع متردية ومزرية، لا تخفي ولا تُنكر، وتكفي شهادة الترابي دليلاً على مدى الانقسام والتناحر والتآمر بين (الإخوة في الله) من أجل حيازة السلطة الدنيوية الفانية، وهذا ما ذهب إليه (علي الحاج) أحد أبرز رموز التيار الإسلاموي الإخواني السوداني في العقود الأخيرة، حين وصف في حواره مع (اليوم التالي) أمس، ما عرفت بمذكرة العشرة التي ترتب عليها انقسام حاد داخل الحركة الإسلامية لا تزال آثاره قائمة، “بأنها أسلوب دخيل على الحركة وغير مقبول وفيه نوع من التآمر ولولا حكمة الشيخ الترابي لسالت الدماء في الشوارع”. إذن فالصراع على السلطة لا يعصم عنه ما يسمى بالتلاحم العضوي بين الإخوان كما يروجون دائمًا.
الشاهد في أن انقسام الحركة الإسلامية بُعيد المذكرة المشار إليها كان لم يكن (فداء للدين) وإنما كان لإصابة ثمارًا دنيوية خالصة، إذا أن مفرزة مهمة منهم و(مجاهدة) أطلقت على نفسها العدل والمساواة، وللاسم دلالاته وحمولاته بالتأكيد، وجهت سلاحها ضد السلطة بدعوى إن الأخيرة عمدت على إقصائها لأسبابٍ جهويّة في الغالب، وهذا ورد تفصيلاً في (الكتاب الأسود)، وهنا لا يمكن أن نمضي دون الإشارة إلى أن تلك الحركة وجدت مساندة شعبية كبيرة (جهوية) في الغالب مثلت حاملًا اجتماعيًا لأطروحاتها التي تجاوزت الديني إلى الواقعي فتناولت الفساد الحكومي، والفوارق الاجتماعية وإقصاء أغلبية المجتمع من دورة توزيع الثروات وحققت نجاحًا نسبيًا في ذلك الوقت باستدراج الناقمين والساخطين.
والحال، أن التجربة التركية مختلفة بحكم الواقع والسياق، فتركيا ليس السودان بأي حال، كما أن السياق الذي جاء بالعدالة والتنمية إلى السلطة يختلف كليًا عن الذي جاء بالإنقاذ، وبالتالي فإن حزب أردوغان (الإسلاموي) ظل يدير تركيا (مجبرًا) بنظام مدني، (علماني) إن شئت، لكنه في الظل جاء بحركة الخدمة التي يترأسها قدوته السابق وعدوه الحالي (فتح الله غولن)، وهي حركة تعرف نفسها على أنها اجتماعية قومية إصلاحية لا تسلك السياسة، إذ ترى أن مشاكل المنطقة تتلخص في الجهل والفُرقة والفقر، لذلك وجهت معظم أنشطتها نحو العلم والثقافة، إلاّ أن القفزة الكبيرة في نشاط الحركة بدأت مع وصول العدالة والتنمية إلى الحكم، حيث استفادت من دعم الدولة ومن مساحات الحرية المتاحة، لتبدأ رحلتها مع إنشاء المدارس خارج تركيا، مروراً بتكوين وقف الصحفيين والكتاب الأتراك ليصبح الجهة الممثلة للجماعة بشكل شبه رسمية، وتدير الحركة أكثر من 1500 مؤسسة بمختلف مراحل التعليم، إضافة إلى 15 جامعة، منتشرة في أكثر من 140 دولة في مختلف أنحاء العالم. وأهم ملامح هذه المؤسسات التعليمية أنها تتفق مع علمانية تركيا، ولا تطبق برامج تحمل مواصفات دينية. فكيف انفرط العقد بين حركة الخدمة والعدالة والتنمية إلى حد الدم والموت.
* ونواصل غدًا