صرت «كاوبوي» ونجوت بجلدي
كان التدريب العسكري إلزاميا في المرحلة الثانوية على عهد أول حكومة عسكرية في تاريخ السودان، الحافل بتدخل العسكرتاريا في شؤون السياسة، حتى جعلوا البلاد قوة عظمى في البؤس، (تحرر السودان من الاستعمار البريطاني قبل 60 عاما، وقع خلالها تحت الاستعمار والاستحمار العسكري لـ49 سنة… حتى الآن).
كان يتولى تدريبنا عسكريا جنود متقاعدون ملحقون بالمدرسة، أي يعتبرون جزءا من أسرتها: طوابير وتنظيف بنادق وتفكيكها وتنظيفها ثم استخدامها في الرماية. (كان صنف البنادق الذي نتدرب عليه يسمى أبو عشرة لأنه كان يتسع لعشر طلقات من الرصاص)، وفي العطلة الصيفية التي تسبق الانتقال إلى السنة النهائية، كان يقام معسكر ضخم يضم طلاب عدة مدارس ثانوية، يشرف عليه عسكريون حقيقيون، وطوال نحو 40 يوما كانوا يعاملوننا كجنود حقيقيين، وكنا كطلاب بينهم والمرحلة الجامعية سنة واحدة نحس بأن العسكرية نوع من الإذلال لنا، وكنا ننظر إلى الجنود الذين يتولون تدريبنا نظرة دونية، وخاصة أن العسكرية بها قيود وضوابط تبدو سخيفة للمدنيين. وكنا نضحك من بعض التعابير العسكرية مثل «قيام راقدا»! ودي تيجي إزاي يا إما نرقد وإما نقوم.
وحبسوني ذات مرة يومين متتالين لأنني رفضت تلميع القطع النحاسية في حزامي العسكري، وكنا نتساقط كأوراق الخريف خلال الطوابير القاسية والركض لمسافات طويلة ونحن نحمل بنادق ثقيلة الوزن صنعت في العصر الحجري الأول. ثم جاءت مسابقات ضرب النار، وكانت المدارس تتنافس في إحراز مراكز متقدمة، ورقدنا على الأرض مصوبين بنادقنا نحو أهداف وضعت على جانب تل صخري. وتمكنت من تسديد خمس طلقات محكمة نحو الهدف، فنبهني زميلي الراقد إلى جواري إلى ان ذلك يعني أنني سأنال رتبة عريف مما يؤهلني لتدريب تلاميذ المراحل الدنيا في العام الدراسي التالي. وكانت تلك كارثة، فقد كان همي أن أكرس كل وقتي للمذاكرة في السنة الأخيرة لأنال الشهادة الثانوية وأدخل الجامعة، ولحسن حظي كانت هناك جولة ثانية حاسمة للرماية، فصرت أطلق النار على الأحجار عامدا فتحدث أصواتا كتلك التي كنت اسمعها في أفلام الكاوبوي: تشيوووو بووووم.. وطرب زملائي للأمر وجاروني في الرماية العشوائية فتطايرت الأحجار من جنبات الجبل حتى صرخ ضابط فينا بالتوقف، ولكننا كنا في حالة طرب على إيقاع الرصاص على الحجر، وأهملنا أوامره حتى فرغت خزائن بنادقنا.
وكان جزاؤنا طابور ذنب: جعلونا نقف ثلاث ساعات متتالية في الشمس حاملين تلك البنادق الركيكة. ثم أرغمونا على كنس كافة دورات المياه في المعسكر وبعدها ساقونا إلى الحبس خمسة أيام وحرمونا من المشاركة في الطابور الختامي الذي كان يقام في استاد الخرطوم بحضور وزير التربية ووزير الدفاع، بل وإمعانًا في إذلالنا كلفونا بتوزيع المشروبات (مجانًا) على آلاف الضيوف ولكننا استغللنا سذاجة بعضهم وبعنا لهم المشروبات وخرجنا من الحفل بثروة لا بأس بها.
كان وزير التربية (اللواء طلعت فريد)، هو نفس الرجل الذي طردني وآخرين من المدرسة في السنة التالية لقيامنا بنشاط معاد للحكومة، وزاملت اثنين من بناته في الجامعة لاحقًا، وذات يوم قلت له: يا عم طلعت (وكانت حكومتهم قد سقطت وقتها): هل تعرف أنك طردتني من المدرسة الثانوية؟ قال: جائز. ولو ما ركزت على دروسك في الجامعة وتركت السياسة لأهلها لوجدت نفسك مطرودًا من الجامعة.
صادقت الرجل الذي كان يوما ما وزيرًا ملء السمع والبصر، ولكنه لم يخرج من الحكومة إلا بمعاشه التقاعدي وظل موضع احترام كل من كانوا يهتفون ضده لأننا وبعد أن «شفنا» من أتوا بعده عرفنا كم كان وزملاؤه عفيفين ونظيفي الأيدي.