حيدر المكاشفي

ان نلدغ بتهريب العقارب خير من ان نموت بلدغاتها


نشرت صحف الخرطوم على نطاق واسع في اليومين الماضيين، خبر إحباط جمارك المطار محاولة تهريب 200 كيلوجرام عقارب ميتة كانت في طريقها إلى إحدى الدول الآسيوية.. كان أول تعليق عفوي صدر عني عند مطالعتي هذا الخبر هو (أن نُلدغ بتهريب العقارب خير من أن نموت بلدغاتها)، فعلى الأقل أن نفقد مبلغاً من المال أفضل ألف مرة من أن نفقد حياة الأطفال..
كانت ذات صحف الخرطوم قد نشطت في فترات سابقة في نشر أخبار مفجعة عن وفيات متلاحقة للأطفال والنساء بلدغات العقارب في دارفور والشمالية وغيرها من المناطق والفيافي الريفية القصية التي تنتشر وتتكاثر فيها الهوام من عقارب وثعابين، بينما ينعدم فيها المصل المضاد لسميات هذه الهوام.. ومن أكثر تراجيديات موت الأطفال بلدغات العقارب التي ظلت عالقة بذهني، حكاية تلك اليافعة الصغيرة التي لا يتعدى عمرها السنوات الست، كانت تعيش مع أسرتها في ناحية من نواحي الولاية الشمالية، لدغتها عقرب مع حلول المساء، أسرع بها أهلها إلى المشفى، استقبل الحالة الطبيب الموجود وأسعفها بالموجود من إسعافات أولية بقسم الحوادث وأدخلها عنبر الأطفال، ليتسلم حالتها عند العاشرة ليلاً طبيب آخر وجدها تعاني غاية المعاناة، إذ كانت في حاجة إلى دواء آخر لم يتوفر بالمستشفى، بذل الطبيب كل ما في وسعه لإنقاذ الصغيرة، ولكن هيهات مع هذا التردي في الخدمات العلاجية، حتى صديقه الصيدلي الذي استغاث به بعد منتصف الليل لم يجد عنده هذه الجرعة من الدواء الذي ينقذ حياة الطفلة، فجأة وبعد تفاقم حالة الصبية بدأت تهضرب وتهذي قائلة (يمة أمسكيني.. كضابة ماكي ماسكاني)، وكان هذا آخر ما نطقته وودعت به هذه الدنيا الفانية، فأي مأساة هذه وأي فجيعة، هل أتى علينا زمان الفجيعة والمأساة على قول شاعرنا المرحوم محمد سعد دياب، الذي جعل عبارة (ويأتي زمان الفجيعة والمأساة) عنواناً لإحدى قصائده التي يقول في أحد مقاطعها (زمان الانكسار أتى، زمان الانهيار أتى، فلملم جرحك الزخّار وادفع فادح الثمن)، وهل هناك فجيعة ومأساة أفدح من أن يروح هؤلاء اليفع الصغار البريئون هكذا بكل بساطة لانعدام جرعة دواء لا تساوي شيئاً، إنها والله المأساة في أبلغ وأوضح صورها، أن يموت الكبار والصغار من أهل بلدي من الفقراء ومحدودي الدخل – وما أكثرهم – بسبب ضيق ذات اليد وعدم الحصول على الدواء، بينما مترفوها وأثرياؤها – وما أقلهم – لا يطيقون صبراً مع أقل وعكة، فيهربون من البلاد إلى حيث توجد أرقى المستشفيات في بلاد العرب والعجم.. حرام والله حرام.. اللهم الطف بالسواد الأعظم من عبادك في السودان واستر فقرهم بالعافية.