ترجمان لا مكان له في السودان
كانت المرحلة الثانوية بحق وحقيقة نقطة مهمة في حياتي، ففي زماننا لم يكن هناك تقسيم للمناهج إلى علمي وأدبي، بل كان من حق الطالب عند الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية أن يختار ست مواد على الأقل من بين مجموعات مختلفة، يعني لم يكن هناك ما يمنع أن تجلس لامتحان الجغرافيا والتاريخ والعلوم والرياضيات والرسم والنحت. وبالنسبة إلي كان بلوغ السنة النهائية غاية المنى ليتسنى لي التخلي عن الرياضيات والفيزياء والكيمياء وكل ما له علاقة بالأرقام والمعادلات. واختيار مواد امتحان الشهادة «بكيفي وعلى كيفي».
وكانت كل المواد على أيامنا تُدرّس بالإنجليزية، حتى التوجيهات في حصص التربية الرياضية كانت بالإنجليزية، وكان مدرسو الفنون أيضاً ملزمين بالتخاطب معنا بالإنجليزية (كان الرسم وصناعة الفخار والنحت وطباعة الأقمشة جزءا من المقرر الإلزامي حتى السنة النهائية من المرحلة الثانوية) فتأمل وتخيل أن تدرس الكيمياء بالإنجليزية وتحفظ أسماء مواد من شاكلة كلوروهايدروفينلوين، وكان معظم مدرسي اللغة الانجليزية من البريطانيين، ولكن السودانيين القلائل الذين كانوا يدرسون تلك اللغة كانوا يعرفون قواعدها ونحوها وتراكيبها أفضل من البريطانيين، وأذكر أن مدرساً يدعى عبيد خيري كان يدرب المعلمين البريطانيين الجدد، فيجلسون أمامه في أدب وهم يتعجبون من ذلك الإفريقي الذي يلقنهم أصول لغتهم الأم، بل كانت الإنجليزية لغة الدواوين الحكومية حتى السبعينات، ومن ثم لم يعرف السودان مهنة الترجمة إلا مؤخرا، فقد كان الموظف مطالباً بأن يترجم ما بين يديه من أوراق إذا لزم الأمر ذلك.
ومن عجائب هذا الواقع أن أحد شيوخ الترجمة في السودان قال لي عندما حللت محله مترجماً في السفارة البريطانية في الخرطوم إن ترتيبي هو الخامس بين الذين احترفوا الترجمة في السودان ما بعد الاستقلال «ولا يعني هذا أنني عجوز –حاشا وكلا– بل يعني أنه لم يكن هناك سوق للترجمة» وبالتالي فإنني لست من «الرواد» في مجال الترجمة، وكل ما هناك هو أنه لم تكن هناك حاجة إلى مترجمين خارج نطاق السفارات الأجنبية والبرلمان (نظرًا إلى وجود نواب من جنوب السودان لا يجيدون العربية).
وأذكر أنني وعند التحاقي بشركة أرامكو مترجماً تعرفت على سوداني سبقني إلى العمل هناك بشهور قليلة، وأذكر أن رئيس القسم قال لي عنه: لا أصدق أن هذا الرجل لم يمارس الترجمة قط، قبل أن يلتحق بأرامكو، وقد سمحنا له بالجلوس للامتحان ونحن واثقون من أنه سيرسب بجدارة لأن المؤهل الأكاديمي الذي كان يحمله هو الشهادة الثانوية، وظل يعمل طوال عمره مدرس رياضيات في المرحلة المتوسطة، ولكنه أحرز في الاختبارات درجات غير مسبوقة، ومنذ يومه الأول وهو يترجم بكفاءة، وكأنه نشأ وترعرع داخل أوبيك. ونحن في المرحلة الثانوية دخل التلفزيون جمهورية السودان، وتبرعت لنا وزارة المعارف (التربية) بجهاز كنا نضعه في نادي الطلبة، ويبقى 750 طالباً ملتفين حوله منذ الإرسال في السادسة مساء وحتى موعد النوم الإجباري في التاسعة والنصف مساء. وفي بعض البيوت صار التلفزيون تجارة: على كل من يريد مشاهدة التلفزيون أن يدفع قرشاً واحدا عن كل ساعة.. وأنت وحظك، فقد تكون الساعة التي دفعت قيمتها كلها خطبة لفخامة الرئيس تتخللها سبعة تنويهات «نأسف لانقطاع الإرسال لخلل فني».. وطبعاً لم يدخل التلفزيون بيتنا إلا بعد انتقال والدي إلى رحمة مولاه، فقد كان يعتبر التلفزيون «مسخرة» مثل السينما (كنا سنوات وخلال الإجازات عندما نكون تحت رقابة الوالد نشاهد نصف الفيلم ونهرع إلى البيت قبل موعد سريان حظر التجول، في حوالي الثامنة والنصف مساء)، ولعله لو عاش والدي ليشهد عصر العهر الفضائي لجعل بيتنا بلا سقف كي يضمن عدم قيام شخص بتثبيت إيريال أو طبق هوائي (دِش) عليه.