طفرة حضارية ونضالية
في مرحلة الدراسة الثانوية شعرت بأنني شخص مهم، فقد صرت ارتدي البنطلون مثل أبناء المدن (كان أهلنا في الريف السوداني يعتبرون الرجل الذي يرتدي البنطلون مشكوكا في رجولته)، وعرفت البقلاوة التي يسميها السودانيون «باسطة» وهي تحريف للكلمة الإفرنجية «باستا» التي تطلق على المعجنات، ولكن الأهم من كل ذلك أن التحاقي بمدرسة ثانوية تزامن مع الحكم العسكري الأول، وكان طلاب المدارس الثانوية، في طليعة المطالبين برحيل ذلك الحكم، وعلى الرغم من أن مدرستي –وادي سيدنا الثانوية– كانت قريبة من العاصمة السودانية إلا أن معظم طلابها كانوا قرويين وبالتحديد من شمال السودان، ومن ثم كان تحدي الحكومة والدخول في مناوشات مع رجال الشرطة يمنحنا الإحساس بأننا «رجال ونفهم في السياسة»، وكنا نشارك خلال العام الدراسي الواحد في عدة مظاهرات وإضرابات عن الدراسة، مطالبين بزوال الحكم العسكري.
دفعت لاحقاً ثمناً باهظاً لكل ذلك، فعندما كنت في السنة النهائية في المرحلة الثانوية، أتأهب لامتحانات الدخول إلى الجامعة تم اختياري عضوا في اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب المدرسة، ومن هنا إلى هناك دخلنا في إضراب عن الدراسة وشاركنا في مظاهرات صاخبة ضد الحكومة، وكان أكثر ما يعجبنا في التظاهر هو أننا كنا نتوجه إلى الخرطوم أو أم درمان، حيث «البهرج والهيلمان»، كانت مدرستنا تقع إلى الشمال من أم درمان بعدة كيلومترات، وقد احتلها العسكر لاحقا وحولوها إلى كلية حربية تلاصقها أكبر قاعدة جوية في السودان.
المهم لعنا «خاش» الحكومة، وتم استدعائي ضمن آخرين إلى مكتب ناظر/ مدير المدرسة، وعرفنا أن المسألة فيها «إعدام»، فلم يكن يدخل مكتب الناظر في ذلك الزمان طالب إلا ليتلقى أمراً بالفصل من الدراسة مؤقتا أو نهائيا، ولكنني لعنت إبليس وتذكرت أنني دخلت مكتب الناظر قبل ذلك ودخلت «التاريخ»، إذا خرجت منه سالماً بل ومزهوا، وكان ذلك عندما استدعاني «الصول بابكر»، وهو علم من أعلام تلك المدرسة يذكره عشرات الآلاف من خريجيها بالخير، فقد كان الرجل جندياً متقاعداً، وكان صارماً ومنضبطاً، ومهمته الأساسية ضرب الجرس وكان يفعل ذلك وفق طقوس ثابتة وبإيقاع واحد معلوم، وكان مناطا به حصر الحضور والغياب في حجرات الدراسة، والأهم من كل ذلك أنه كان يتولى تنفيذ عقوبات الجلد التي يقررها المدرسون على الطلاب، وحتى الجلد كان يتم على يديه بإيقاع واحد ثابت، وكان على الرغم من كل ذلك محبوباً.
استدعاني «الصول بابكر» ودخل بي مكتب الناظر، ولحسن حظي كان المكتب خالياً، وأشار إلى سماعة هاتف مرفوعة ثم انصرف. سبق لي رأيت الهاتف بالعين المجردة في السينما، ولكن لم يسبق لي استخدامه، وظللت أنظر إلى ذلك الجهاز العجيب وأنا أرتجف: ماذا جنيت حتى يتركوني لبشر مع جهاز نمَّام ينقل الكلام.. دخل علي العم بابكر مجدداً وقال لي: أخوك عايزك في التلفون، فرفعت السماعة محاولاً تذكر طريقة استخدامها كما رأيت في أفلام السينما. وبعد محاولات متكررة لتحديد الوضع الصحيح للسماعة سمعت صوتاً يقول: جعفر؟ مالك؟ ألقيت بالسماعة وخرجت من المكتب والعرق يتصبب من جبهتي، فدخل عم بابكر المكتب ورفع السماعة وتكلم مع أخي ثم أبلغني أن جدتي توفيت. خرجت من مكتب الناظر لأجد العشرات من زملائي ينتظرونني لمعرفة سر استدعائي إلى مكتب الناظر. نسيت أمر جدتي المتوفاة وصرت أحكي لهم كيف أنني «تكلمت في التلفون»، فنظروا إلي بمزيج من الإعجاب والحسد وسألوني كثيراً عن التلفون فتحدثت عنه حديث العالم الخبير، ولم أقل لهم بالطبع أن التلفون سبب لي انهيار عصبياً بعد أن نطق باسمي من دون سابق معرفة بيننا.
أما زيارتي الأخيرة لمكتب الناظر فقد تلقيت فيها قراره بفصلي من المدرسة نهائيا، وهكذا جلست لامتحان الشهادة الثانوية «من المنازل»، ونجحت وسقطت الحكومة العسكرية.