التكنولوجيا المسكينة
أثناء سفري للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية، كانت تتملكني مشاعر الفرح والحماس لأتعرف على عالمٍ جديدٍ وأبني علاقاتٍ قوية مع أصدقاء من مجتمع مختلف تماماً قيماً وحضارةً وعاداتٍ عن المجتمع الذي ترعرعت فيه، حين دخولي أول درسٍ في المنهاج تفاجأت بحال الطلاب في القاعة، فكثيرٌ منهم إن لم يكن كلهم ما بين متمركزٍ خلف شاشة الحاسوب الشخصي، أو مركز في جواله تاركاً العنان لإبهامه ليلمس شاشة الهاتف لينتقل به من عالمٍ إلكتروني إلى آخر، وأنا جالس أراقب هذا وذاك من دون أن يلتفت إليّ أحدهم كي أستطيع أن أسلّم عليه أو أبدأ معه الحديث.
هذا الموقف ذكّرني بموقفٍ طريفٍ في العمل، حيث تلقيت رسالةً خفيفة الظل من أحد الزملاء في العمل يقول فيها: الزملاء الكرام، أعتذر عن إزعاجكم جميعاً، لكني قد وجدت الليلة الماضية في غرفة المونتاح جهاز “آي فون” يبدو أنه جديد؛ لأنه لا يحتوي على أسماء، ولكون الهاتف أصبح أهمّ من الطعام والشراب في حياتنا اليومية، فإننا نقدر حجم الهمّ الذي يصيبنا عند فقدانه؛ لذا فإن الزميل الذي فقد هاتفه بإمكانه الاتصال معي لتسلمه في أي وقت. لا أراكم الله مكروهاً بـ”آي فون”.
والعجيب أن العديد منّا في هذا الزمان يشكون بأن العزلة في حياتنا قد طغت على الجانب الأسري، وأن الشعور بآلام الظهر وحرقة العينين قد أصبح من بديهيات الحياة، وأن التوتر والإرهاق وحتى التقصير في عباداتنا أصبحت سمةً بارزة، ونحن نحاول أن نعزو هذا كله إلى وجود تلك التكنولوجيا المدمرة في حياتنا، فأصبحت التكنولوجيا هذه شمّاعةً نعلق عليها أخطاءنا وإخفاقاتنا، وأصبحنا لا نتردد في أن نمسك بناصية هذه التكنولوجية ونرفعها على مرأى من العالم قائلين:
“هذه التكنولوجيا الحديثة هي السبب الأكبر في كل ما نعانيه من مصائبٍ ومشاكل، ونحكم عليها غيابياً بأنها السبب الوحيد في جرائمنا تجاه أنفسنا والمجتمع من حولنا”.
تلك التكنولوجيا المسكينة هي التي سهلت لنا الحياة وأزالت من أمامنا العقبات، رفعتنا فوق الغيوم وأضاءت لنا الأجواء والفضاءات، تلك النعمة التي وصلتنا ببعضنا من غير تعبٍ ولا مشقة، وفتحت لنا الأبواب وأزالت عن كاهلنا التعب وأغرقتنا في التسالي والمرح، ومع ذلك فنحن نلعنها ليلاً ونهاراً.
إن ما نعانيه من عدم رضا عن حالنا هو من كسب أيدينا، وبمحض إرادتنا، فنحن الذين اخترنا أن ندمن هذه التكنولوجيا، ونحن الذين قررنا أن نجلس الساعات الطوال أمام تقنياتها دون أيّ رغبةٍ في إزعاج أنفسنا بممارسة التمارين الرياضية لتفادي آلام الفقرات، أو حتى إراحة أعيننا بعد جرعاتٍ طويلةٍ من الإدمان الإلكتروني، نحن مَن نختار أن ننزوي بأنفسنا لنتواصل بالساعات مع مَن لا نعرف بدل أن نتسامر مع الأهل والأصحاب، نحن من نزيد من سرعة قيادتنا لسيارتنا الحديثة ذات التكنولوجيا العالية لنصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت أو في أحسن الحالات في رسم الإعاقة الدائمة، ثم كما هي العادة، نلعن مَن؟ التكنولوجيا الحديثة.
إذاً هل نتخلى عن هذه التكنولوجيا وهي عصب الحياة اليوم؟ بالتأكيد لا نستطيع إغفال هذه الضرورة اليومية، لا بل على العكس علينا إتقانها واحترافها، إلا أن سرّ الاستفادة المثلى من هذه التكنولوجيا يتلخص في تحقيق التوازن في استخدامها وعدم المغالاة في الانجراف معها.
أصبحت القدرة على ضبط النفس وكبح جماحها في رغبتها في الغوص في العالم الإلكتروني ونسيان العالم الحقيقي هي من مهارات الحياة اليومية في هذا العصر. فقلما تجد اليوم من يسير بدون جوّاله ولو كان من غرفة في بيته إلى غرفة أخرى، ولا ننكر أن الهاتف يصاحب أكثرنا حتى عند قضاء الحاجة، وما نكاد نستقيظ من نومنا إلا ونبحث بسرعةٍ عن جوّالنا الذي كان نائماً بجوارنا لنستعرض ما وصلنا من رسائل وما فاتنا من مستجداتٍ وكم جمعنا من تعليقاتٍ وإعجاباتٍ على بوستاتٍ قد كتبناها ليلاً قبل أن ننام، وحتى إننا لا نطيق أن ننتظر ولو للحظات إذا سمعنا رنة رسالةٍ جديدةٍ عند قيادتنا للسيارة، فنسارع إلى تصفح تلك الرسالة وربما الرد عليها مباشرة ونحن على الطريق السريع.
من المعلوم أن التكنولوجيا سلاح ذو حدين، ومن المعلوم أيضا أن الانغماس في بحر هذه التكنولوجيا قد تفشى في مجتمعاتنا وفي المجتمعات الغربية على حد سواء، فالتقنية بتطور سريعٍ ومخيف، وما نعرفه ونستخدمه اليوم من التكنولوجيا قد يكون جزءاً يسيراً مما قد نشاهده أو نضطر لاستخدامه في السنوات القادمة، لكن من المعلوم أيضاً أن الله وهبنا هذه التقنيات الحديثة كي نسخرها لتخدمنا وليس لنخدمها.
“إن معروفاً كبيراً يمكن أن نسديه لأنفسنا يكمن في أن نراقب وننظم استخدامنا لتقنيات التكنولوجيا بما يحقق حاجتنا منها، ونستغل الوقت الباقي في إعادة بناء حياتنا الشخصية والاجتماعية فهي ما زالت تستحق منا الكثير”.
هافغنتون بوست