جعفر عباس

فاشلة وهشة ومهمشة عن جدارة (2)


كيف لا تكون معظم دولنا فاشلة وهي طفيلية تعيش عالة على المجتمع الدولي، فنحن أقل شعوب الأرض إنتاجية، وأكثر شعوب الأرض «استيرادا»، فنحن نستورد الأقلام، والرمل، والفياغرا والاسبرين وحبوب منع الحمل والإيدز والتفاح وورق التواليت، بل نستورد البشر، ونسمي الصنف المستورد «خبراء». حتى مسميات الوظائف عندنا مستوردة، (معظم تلك المسميات مترجمة عن الإنجليزية: مثل مدير قطاع ومدير تنفيذي ورئيس قسم/ وحدة، وعندما جاء الدور على أكبر منصب بعد الوزير جعلناه «وكيل» لأن التسمية الإنجليزية لهذا المنصب هي «أندر سكريتاري Undersecretary» ففتح الجماعة الدكشنري وقالوا إن ترجمة مسمى تلك الوظيفة هي «تحت السكرتير» فقالوا: ما يصير، لأن السكرتير عندهم هو من يجلس في مكتب الموظف الكبير لتصريف أمور المكتب، وفات عليهم أن كل وزير أمريكي -مثلا- يسمى سكرتيرا، فهذا سكرتير الدفاع وهذا سكرتير الشؤون الخارجية).
وبلغ بنا الهوان أننا صرنا نستورد مفردات اللغة فصرنا نتحدث بـ: هاي وباي وأوكي، وسوري.. سي يو.. وظيفة سينيار.. فيرست كلاس.. هل هذه المفردات (على التوالي) أخف على اللسان من: أهلا، وداعا، آسف، إلى اللقاء، درجة كبار الموظفين، درجة أولى؟ طبعًا لا، ولكن القضية هي أننا بتنا ندرك أن بضاعتنا المحلية -بصفة عامة- فاسدة ومغشوشة، فجعلنا هذا الحكم يسري على لغة صمدت في وجه الروم والفرس والتتار والهكسوس.
وبالمناسبة: حتى نانسي عجرم وهيفاء وأليسا بضائع مستوردة أو مستنسخة عن أصل غربي! وكيف لا نكون دولاً فاشلة وغاية المنى عند معظم المواطنين العرب هي الحصول على جواز كندي أو أسترالي أو حتى إندونيسي. ليس فقط لأن العيش الكريم بات متعذرا في غالبية الدول العربية التي صار البشر صادراتها الأساسية، ولكن أيضًا لأن جواز السفر العربي صار (سبة).
دعونا من الكلام الكبير في السياسة لأنه (يودي في داهية) وإلى التهلكة، ولنتأمل أشياء بسيطة: انظر حال المطاعم عندنا، معظمها أقل نظافة من دورات المياه -ليس في سنغافورة، فالحمامات هناك أكثر نظافة من غرف النوم في بلدان كثيرة- وأنا لا أتكلم عن الصراصير والفئران التي تعمل في تلك المطاعم بدوام كامل، بل عن البشر الذين تراهم فتدرك أنه لولا عطلة العيدين لما عرف الماء طريقه إلى أجسامهم. وانظر إلى الأوعية التي يغرفون منها الطعام وستعرف أين اختفت مقتنيات أسرة رمسيس الخامس! هذه المطاعم تبقى مفتوحة لأن بيوت بعض ضباط الصحة يجب أن تبقى مفتوحة. انظر إلى مستشفياتنا التي تلقي النفايات من إبر وشاش طبي ملوث بالدماء بل وأحيانًا الأعضاء البشرية التي تتعرض للبتر في مقالب القمامة المكشوفة العامة (ربما تذكرون حكاية الجنين الذي ولد ميتا وتخلص منه مستشفى عربي في مكب الزبالة).
اطلب شهادة راتب أو خبرة من جهة عملك، وستكتشف أن الأمر أصعب من إقناع الولايات المتحدة بعدالة القضية الفلسطينية: لا يمكن تقديم الطلب شفاهة بل كتابة، وعليك أن تترك ثلاثة أرباع الورقة لتوقيعات رؤساء الأقسام والإدارات، وبعد خمسة أيام يبلغونك بأن الشخص الذي لديه (الختم) سافر في دورة دراسية لستة أشهر في هاواي، وأن الحصول على ختم جديد يتطلب مخاطبة وزارات الداخلية والتربية والنفط والكهرباء والبلدية.
وهناك حكاية رويتها كثيرًا عن تجربتي عندما عدت مع عائلتي من بريطانيا وقدمت شهادات عيالي المدرسية لتسجيلهم في مدارس عربية فقالوا: ما يصير ما عليها ختم، واتصلت بمدارسهم في بريطانيا طالبًا شهادات مختومة، ولكنهم قالوا لي: إنه لا توجد مدرسة أو هيئة تعليمية هناك تملك (ختما)، ولأنني أعرف عقدة الأختام العربية حملت الشهادات إلى السفارة البريطانية وأنا أعيط، فختموها (وش وظهر) رأفة بي وبعيالي، ولا شيء يعلو فوق الختم أبو أسدين.