صحتك أهم من الوظيفة
منذ أيام وصديق عزيز منذ أيام الطفولة يرقد في المستشفى بعد إصابته بنزف في الدماغ، وقد تجاوز بحمد الله مرحلة الخطر. لم يكن يشكو من أي علة، ولكنه كان مصابًا بمرض يعتقد الناس أنه حميد، وهو التفاني الزائد عن الحد في العمل، فرغم أنه يتقاضى راتبًا نظير أن يعمل 8 ساعات يوميًا، فإنه ظل وعلى مدى سنوات طوال يعمل بلا مقابل، لأنه محب لعمله الذي يتطلب الدقة والإخلاص، بمعنى أنه كان يبقى في مكتبه عدة ساعات إضافية يوميا، بل يحمل معه «الشغل» إلى البيت، لأنه «مصرفي»، والعمل في مجال الصيرفة والمال يتطلب دقة عالية وحرصا على التفاصيل، لأن الأمر يتعلق بحقوق الأفراد والجماعات والدولة، ومثل ذلك النزيف الدماغي والجلطات، عبارة عن نواقيس تنبهنا إلى أننا قمنا بتحميل أجسامنا ما لا تطيق.
أنا أيضًا أحب عملي وأتفانى فيه ولا أحسب الساعات وأنا أؤدي مهام ذات طبيعة «عاجلة»، ولكنني، وبالمقابل لا أستأذن من أحد لأرتاح إذا أحسست بأنني مرهق أو بأنني مقصر في شؤون عائلتي. بمعنى أنني أعطي جسمي وعقلي بعض الراحة، حتى لو تطلب الأمر إسناد المهمة الموكلة إلي إلى زميل عمل.
وسعيد الحظ هو من يؤدي عملاً يجد فيه متعة، فلا شيء يرهق الصحة النفسية والجسدية مثل وظيفة مملة أو العمل تحت إشراف شخص متسلط أو متعجرف. وقد سبق لي أن عملت نحو سنة في وظيفة ذات مزايا ضخمة، ولكن المناخ العام للعمل كان بغيضًا على نفسي إلى درجة أنني كلما توجهت إلى العمل كنت أقول إنني ذاهب إلى (بيت الطاعة)، وذات يوم لاحظت زوجتي احمرارا شديدا في عيني اليمنى، (ربما لاحظت ذلك لأنني لا أعطيها العين الحمراء عادة)، وذهبت إلى الطبيب، وقال إن وعاء دمويا صغيرا انفجر في عيني نتيجة لارتفاع ضغط الدم عندي، وأضاف: «جاءت سليمة هذه المرة واعمل حسابك كي يكون الضغط تحت السيطرة»، وهكذا قررت أن يكون ضغط الدم عندي تحت السيطرة، وخرجت من العيادة إلى مكتبي حيث جمعت أشيائي الخاصة في صندوق من الكرتون وخرجت ولم أعد حتى الآن.
أموت أو أصاب بالشلل من أجل وظيفة تعود علي براتب كبير؟ يفتح الله.. ما تلزمنيش. من الخير لأسرتي أن تعيش بما يتيسر من قوت من أن تفقدني كليا بالوفاة أو جزئيا بالإعاقة، ومنذ أن غادرت مكتبي ذاك لآخر مرة وضغط الدم عندي -ما شاء الله- في الحدود الآمنة. وكتبت أكثر من مرة عن أنني عملت بالتدريس حينًا من الدهر، ولاحظت منذ وقتها أن الآلاف يدخلون مهنة التدريس مجبرين، لأن أبواب المهن الأخرى مسدودة في وجوههم، ومن يفعل ذلك يظل كارهًا لنفسه وكارهًا للتدريس، ويدفع ثمن كل ذلك الطلاب و.. هو. نعم فالشخص غير المقتنع بمهنته يعاني التوتر المستمر والشد العصبي. وهكذا فالمدرس المرغم على قبول المهنة لعدم وجود بدائل يظلم جيلا أو أجيالا بأكملها ولا يحس بالرضا المهني أو النفسي.
وفي الثاني عشر من يونيو المنصرم انعقد في غلاسغو بإسكتلندا المؤتمر السنوي للطب النفسي، قدم خلاله الاستشاري ساقب صديق (بريطاني مسلم من أصل باكستاني) ورقة جاء فيها أن وظيفة أمين مكتبة تسبب التوتر أكثر من وظيفة إطفائي أو شرطي يتعامل مع الخطر على الدوام. ذلك لأنها وظيفة رتيبة ومملة ولا يجد من يؤدونها التقدير الكافي. وكانت خلاصة مداولات المؤتمر أن على الإنسان أن يكسب صحته ويترك الوظيفة التي تسبب له التوتر والقلق والضيق.
ولو عمل العرب بتلك النصيحة لصارت المكاتب خالية من البشر!!