جعفر عباس

السلطة وشرف الحصان


من العبارات الدارجة في أدبيات المعارضة السياسية في جميع البلدان «سوء استخدام/ استغلال السلطة»، والمراد بها أن أفراد أو تنظيمات بيدها صلاحيات وسلطات بموجب القانون السائد، تستخدم تلك الصلاحيات والسلطات لتعزيز مصالحها الذاتية، مما يعني ضمناً «غمط» حقوق الآخرين. ولهذا نقول في السودان إن الممسك بالقلم لا يكتب نفسه «شقيا»، والقلم في هذا المثل الشعبي يعني السلطة، لأن القلم يستخدم في التوقيع/ الإمضاء، وكانت سلطة التوقيع على المستندات وإلى عهد قريب حكرا لكبار الموظفين، ولكن صغار الموظفين انتزعوا ذلك الحق، فصار كل لاجئ إلى مكتب حكومي للحصول على مستند مطالبا بالحصول على إمضاءات الخفير «وأنت طالع». وكثيرون يعتبرونني جباناً لأنني أصرح دائماً بأني أخاف من رجال الشرطة، ولو رأوا ما رأيته من رجال الشرطة لاعتبروني قدوة في الصمود و(المرجلة). وخوفي من رجال الأمن لازمني منذ الصغر؛ لأنهم كانوا رمز السلطة الوحيد الذي كنت أراه، ولأنهم كانوا دائماً مسلحين ويملكون حق ضرب الناس وحبسهم، فارتبطوا في ذهني بالقمع والبطش. (كان ذلك زمان «البوليس» السري وهو الشرطي الذي يلبس ملابس مدنية ويشمشم الأقوال والأفعال الصادرة عن المشتبه في أمر معارضتهم للحكم القائم، وبعدها أوكلت المهمة لأجهزة أمنية متخصصة)
وربما كان خوفي ناجماً عن طريقة التنشئة التي خضعنا لها والتي كان بموجبها يتم إرهابنا: تسكت وإلا ننادي البوليس! وكان أهلنا أيضاً يخيفوننا من الأطباء: إذا لم تسكت سنأخذك إلى الدكتور ليطعنك بالإبرة! أعوذ بالله من الإبرة. هنا يكون السكوت فعلا من ذهب.
وسأحكي لكم اليوم قصة قصيرة تؤكد أن معي الحق في الخوف من الشرطة: سام براون شاب من أيرلندا كان في قمة الفرح والسعادة بنيله درجة جامعية في الأدب الانجليزي من جامعة أوكسفورد العريقة، وبينما كان مع نفر من أصدقائه يصيحون و«ينططون» في الشارع من فرط الانتشاء بانتهاء سنوات الدراسة والمذاكرة والخوف من الامتحانات، مروا برجل شرطة على ظهر حصان، فقال براون لزملائه انظروا كيف اختبر معرفة هذا الشرطي باللغة الانجليزية، وتوجه إلى الشرطي وقال له: هل تعرف أن حصانك هذا «غاي»؟ المعنى الأصلي لكلمة غايgay هو «مرح وسعيد»، ولكن وبسبب موضة وهوجة حقوق الأقليات صارت تستخدم لوصف مثليي الجنس أي الشاذين جنسياً، وصارت كلمة (كُوِير queer) الإنجليزية التي كان الشاذون يوصفون بها عبر القرون، ممنوعة قانوناً باعتبار أنها مهينة. وبالمناسبة فإن الصحف العربية التي تصدر في لندن ممنوع عليها استخدام عبارة (شاذ جنسياً).
المهم أن صاحبنا براون فوجئ بثلاث سيارات تابعة لشرطة النجدة تحاصره وتنقله إلى الحبس حيث بقي هناك ليلة كاملة، ثم مثل أمام القاضي! والتهمة: أنت قلت أن الحصان مثلي الجنس وفي هذا استخفاف بمثليي الجنس وجرح لمشاعرهم. قال لهم براون: يا جماعة والله لا أعرف ما إذا كان الحصان فعلاً مثليَّ الجنس، وقصدت فقط أن أثبت لأصدقائي أن الناس نسيت المعنى الأصلي لكلمة غاي، وباتت تربطها بسلوك جنسي معين! قالوا له: بلاش كلام فارغ، فقد قلت كلمة تسيء إلى فئة تمارس سلوكاً جنسياً معيناً، وهذا يخالف المادة 5 من قانون النظام العام public order act وفي لحظة إلهام سأل سام براون القاضي: هل تستطيع الشرطة إثبات أن الحصان أحس بالحرج والضيق لأنني –افتراضا– أثرت شكوكا حول نشاطه الجنسي؟ وفور فراغ براون من طرح السؤال طلب ممثل الادعاء إسقاط التهمة وشطب القضية. ولكن الصحف البريطانية فتحت القضية من زاوية أن شرطياً غبياً قام بتحريك ثلاث سيارات شرطة بها تسعة من رجال الأمن لاعتقال شاب بلا مبرر، سوى أنه -أي الشرطي- يريد الدفاع عن (شرف) حصانه! وبعد هذا، هناك من يعاير أبو الجعافر بأنه جبان لأنه يخاف من رجال الشرطة! عاش الجبن. وعاش المخلل.