المغتربة بنت المغترب..!
( الغربة فاجعة يتم إدراكها على مراحل).. أحلام مستغانمي!
أغاني البنات هي أجندة المسكوت عنه، وصوت البرلمان النسائي الذي تعبر مضامينه الجريئة ومفرداته العفوية عن أوجاعهن، الأمر الذي يجعل منها قبلة للدارسين في إشكالات الزواج وملاذاً للباحثين في أسباب العنوسة..!
رصد تاريخي مبسط لمعارك الفتيات مع شبح العنوسة – من خلال مفردات أغاني البنات – يوضح كيف وكم أن الفتاة السودانية ظلت تتغنى بأصالة العريس المحلي الذي يغالب قلة الحيلة ويقاتل الفقر من أجل عينيها.. إلى أن تطورت أساليب كسب العيش وظهر الاغتراب كحل اقتصادي سحري لكل معضلة عاطفية سببها ضيق ذات اليد.. فحدث إحلال وإبدال تدريجي لصورة فارس الأحلام الذي تغير إلى عريس مغترب ومقتدر أيضاً..!
وهكذا تسللت إلى أشعار البنات أسماء جديدة لعواصم عربية يعود منها العريس إلى أهله وأقاربه محملاً بالغالي والنفيس وباحثاً عن «عروس محلية» يحملها معه – مزينة بالحلي الذهبية والمصوغات الثمينة – إلى غربته الواعدة..!
ومع «تحوُّر» الغربة إلى هجرة طوعية في بلاد الناس.. كان لا بد أن تمارس الفتاة انتظارها التاريخي بطريقة أكثر عملية – «بهاجر ليك أنا في المحل.. محل الطير الهاجر رحل» – فتتحرر بذلك فكرة «العريس اللقطة» من رمزية المكان ويتحول العريس – وبالتالي مبدأ الزواج نفسه – إلى وطن..!
ثم دارت عجلة الزمن وتحولت فتيات الأمس إلى أمهات لبنات مغتربات يوشك قطار الزواج أن «يفوتهن»، والسبب غربتهن المركبة التي فرضت عليهن العيش وفقاً لأعراف مجتمع مختلف، والخضوع الكامل لتقاليده التي تمنع الاختلاط الكامل، بينما ما يزال الاختلاط في مجتمعات الدراسة والعمل في السودان هو أكثر أسباب الزواج شيوعاً..!
هنا كان لا بد لذات الأغاني أن تعبر عن رؤية جديدة مغايرة لمفهوم العريس المنتظر.. تلك الرؤية التي تصطدم في الغالب بأعراف الأهل القاصرة عن مجاراة تطور الصورة النمطية للرجل المناسب، والتي تتضح بجلاء في إصرار الأهل على أن تبدأ بناتهم حيواتهن من حيث انتهوا هم..!
بعض خبراء علم النفس الاجتماعي يرجعون سبب عنوسة الفتيات في الغربة إلى إصابة المغتربين أنفسهم بفصام ثقافي بين مجتمع الغربة ومجتمعات الوطن.. هذا الواقع أنتج مفارقة تاريخية طريفة مفادها أن شبح العنوسة الذي انتصرت عليه الأمهات في السابق باقتناص عريس مغترب، قد تحول اليوم إلى واقع مزعج يقلق منام بناتهن المغتربات..!
الأمر الذي أعاد أمجاد العريس المحلي ورفع من قيمة أسهمه في «السوق».. وإن كان الخاطب المحلي ما يزال يواجه عزوف الفتيات المحليات التواقات إلى العريس المغترب، فقد أصبح اليوم محل أشواق الفتيات المغتربات الباحثات عن عريس مناسب ينتمي إلى ذات النسيج الاجتماعي..!
وهكذا عاد العريس المحلي «عزيز القوم الذي أذله الوافد المغترب» – عاد – إلى مكانته المرموقة في سوق العرض بعد أن كثر عليه طلب العروس المغتربة (بنت المغترب)..!