جعفر عباس

احذروا النقود الورقية والكرافتة


كانت أول مرة استخدم فيها ربطة العنق (الكرافتة) في ليلة زواجي، وكنت قد عدت من دورة دراسية في لندن قبلها بقليل، حيث اقتنيت أول بدلة/ جاكيت في حياتي، وبمناسبة الزواج اشتريت بدلة أخرى كحلية (لا تزال عندي بصحة جيدة)، وفي مساء تلك الليلة المشهودة فوجئ أهلي وأصدقائي بأن الشاب العائد من بريطانيا ارتدى بدلة كاملة من دون كرافتة وصاحوا: مش ممكن تكون مبهدل في ليلة زواجك، وبما أنني لم أكن أملك كرافتة فقد تبرع لي فاعل خير بواحدة وتبرع آخر بربطها لي، وأحسست وهي تضغط على زمارة رقبتي بأنني أخضع لحكم بالإعدام مع تباطؤ في التنفيذ، فما كان مني إلا أن نزعتها ووضعتها في جيب الجاكيت.
ولعدة سنوات بعدها لم أكن أملك كرافتة ولا أعرف طريقة ربطها.. ثم صرت مديرا للعلاقات العامة والترجمة بشركة الاتصالات القطرية ومسؤولا عن تنظيم الندوات والمؤتمرات والحفلات واستقبال ضيوف الشركة فألزمني المدير العام بارتداء الكرافتة، واضطررت إلى التدرب على ربطها. وصرت «متحضرا» ارتدي الكرافتة في المناسبات «اللي هي». وسبحان الله عندي اليوم نحو مائة كرافتة.. قل ما شاء الله.. نصفها لم يعد صالحا للاستخدام الآدمي بعد انتهاء صلاحيتها، و30% من النصف الباقي اشتريته من الأسواق الشعبية في بريطانيا بالكيلو.. والكرافتات التي يمكنني استخدامها من دون أن يصدر احتجاج عن زوجتي نحو عشرة كلها فرنسية أو إيطالية من صنع تايوان.
منذ سنوات قرر المجلس الطبي البريطاني أن على جميع الأطباء عدم ربط الكرافتة خلال ساعات العمل بوصفها ناقلة للجراثيم والميكروبات، وكل من يستخدم الكرافتة يعرف أنها قطعة ملابس لا ضرورة لها البتة، ولا تؤدي وظيفة معينة كما قطع الملابس الأخرى وعدمها خير من وجودها. ولدي كرافتات ظلت معقودة ومربوطة طوال أكثر من عشر سنوات. يعني لم تخضع لغسيل أو كي طوال أكثر من عشر سنوات، ولك أن تتخيل كم مليون نسمة من الجراثيم تقيم بصورة غير قانونية في «تلافيف» كل كرافتة. والمستشفيات هي أكبر مستوطنات الجراثيم والبكتيريا، بل من المعروف أن جراثيم المستشفيات قاتلة، ليس لأن مصدرها المرضى بل لأنها حسنة التغذية بحكم انها تعرضت لأنواع عديدة من المطهرات واكتسبت مناعة ضدها، وأشهر أنواع البكتيريا في المستشفيات هي إم آر إس إيه/ مرسا MRSA ولا يوجد مضاد حيوي ناجع ضدها، ولو أصابت شخصا يعاني جهاز المناعة عنده من الضعف، فاقرأ الفاتحة على روحه!
والأطباء أنفسهم ناقلون للجراثيم والبكتيريا بحكم أنهم يعملون في بيئة تسرح فيها تلك الآفات وتمرح (ومن ثم تجدهم يغسلون أيديهم جيدا بعد التعامل مع كل مريض).. ولا شك ان قطع القماش الملونة السخيفة التي تتدلى من أعناق الناس ويحسبون أنها تكسبهم مظهرا جميلا مطار نموذجي للجراثيم التي تحط عليها وتعشش وتبيض وتفرخ في تجاويفها.. والكرافتة فعلا لا وظيفة حقيقية لها بدليل أن هناك مليارات من البشر لم ولن يستخدموها بينما يستخدم جميع بني البشر تقريبا القمصان والسراويل والجلابيب. إنها مثل العدسات اللاصقة التي ترتديها بعض النساء لإعطاء أعينهن لونا زائفا: ضررها مؤكد بينما لا يعرف أحد لها نفعا.
وعلى «طاري» وذكر الكرافتات وما تحمله من جراثيم فإن أكبر مستودع للبكتيريا و«البلاوي» المسببة لأمراض الجلد والعيون والجهاز الهضمي والتنفسي هي العملات الورقية، فالدينار أو الدولار أو الريال أو الدرهم أو الجنيه الذي في يدك ربما مرّ بأيدي خمسين شخصا، وما من آدمي إلا ويده ملوثة بعض الوقت يوميا، وعليك أن تغسل يدك بعد عدّ العملات الورقية، ومن باب اللعب على المضمون اشتر عافيتك بأن تعطيني ما عندك من تلك العملات وأنا أشيل عنك هم الجراثيم والبكتيريا.