الزواج والمقامات الوهمية
تروي أدبيات الحالة الاجتماعية في السودان أنه وفي ستينيات القرن الماضي سجل شاب من أسرة متواضعة سبقًا، إذ صار أول سوداني يتخصص في ميدان معين في الطب، وصار من نجوم المجتمع، ولا سيما أنه كان حسن السمعة والخلق، وبعد أن حقق طموحاته المهنية فكر في الزواج، وأعجبته إحدى فتيات الحي فذهب إلى بيت ذويها، حيث استقبله والدها أحسن استقبال: «شرفتنا يا دكتور وشرفت البلد كلها.. ما شاء الله عليك.. الجميع يذكروك بالخير»، وفتح ذلك شهية الطبيب وفاتح أبو البنت في أمر الزواج بابنته.
غاب الرجل قليلاً داخل البيت، وبحسب الطبيب أنه بصدد استشارة زوجته وابنته في أمر الزواج، ولكن الرجل عاد بعد قليل حاملاً بندقية صوبها نحو الطبيب وقال له: «والله العظيم أضربك رصاصة في قلبك لو سمعت أحدًا يقول إنك تقدمت تطلب يد بنتنا.. نحن من قبيلة كذا وكذا فمن تكون أنت يا ابن الـ….».. يعني اعتبر الرجل أن مجرد تقدم شاب من أسرة متواضعة لا تنتمي إلى قبيلة «خمسة نجوم» إهانة وتطاولا. وخرج الطبيب الشاب من بيت صاحبنا وساقاه يصطكان من الرعب: أنا جيت أفتح بيت وأسهم في زيادة النسل، مش عشان أروح فيها وينقص النسل السوداني واحدا. وبالطبع لم يكلم الطبيب شخصًا بما حدث، ليس فقط خوفًا على حياته، بل لأن التجربة كانت مهينة، وسمعت بالحكاية من شقيق تلك الفتاة، أي ابن الرجل (أبو بندقية) الذي كان صبيًا في ذلك الزمان وشهد الحادث، وكبر وصار يسرد تلك الحكاية كدليل على العنجهية القبلية الفارغة.
وقرأت مؤخرا حكاية الشاب الغلبان التي نشرتها الصحف، وفحواها أنه أعجب بابنة الجيران فتقدم لخطبتها فصرفوه بأدب، وبعد فترة كرر المحاولة، ليعطي أهلها مزيدا من التفاصيل عن أوضاعه المادية التي تثبت قدرته على «فتح بيت»، وتزويدهم بقائمة من أسماء معارفه وأقاربه وزملاء العمل كي يتحرى أهل البنت عن سلوكه ويتيقنوا من حسن أخلاقة، فقدم له أبو الفتاة الشاي ثم جاءت أم الفتاة (خلي بالك: أم الفتاة) واثنان من أقاربها وانهالوا عليه ضربًا بعد توثيقه بالحبال ثم أتوا بقطعة من الحديد شديدة الاحمرار من فرط التعرض للنيران وكووه بها في ظهره وفي أعضائه التناسلية، (ربما لأنهم اعتقدوا أن واجبهم نحو المجتمع يقضي بضمان منع ذلك الشاب «التعبان» من تلويث النسل باقتران ببنات «الأصول») وعندما ارتفع عويل الشاب اقتحم الجيران البيت وأنقذوه، ومازال طريح الفراش في المستشفى حيث يعاني رضوضًا وحروقًا شديدة.
الشاب الراغب في الزواج كان عاملا حِرفيا، يكسب من حرفته مالا كثيرا، بينما الفتاة تحمل بكالوريوس آداب، ولكن الأهم من كل ذلك أو والدها يملك أرضًا زراعية جعلته يحس بأنه فوق، وأن تقدم عامل لطلب يد ابنته إساءة إلى مركزه الاجتماعي واستخفاف به.
دعوني أعيد عليكم تجربة شخصية كتبت عنها مرارا: كان والد الفتاة التي تقدمت للزواج بها والتي صارت زوجتي (أم الجعافر) يشغل منصبًا مرموقًا بينما كنت حتة مدرس في المرحلة الثانوية، وذهبت إليه في مكتبه بمفردي وقلت له أنا فلان الفلاني، ووظيفتي كذا وكذا وراتبي الشهري 82 جنيها فقط وأريد الزواج من ابنتك إذا لم تكن أنت أو هي تمانع في ذلك. وارتبك الرجل، لأن العادة درجت على أن يأتي وفد عائلي إلى بيت أهل الفتاة لطرح مسألة الزواج، فقال لي: خير إن شاء الله، بس ادِّيني فرصة أسأل عنك، وفي اليوم التالي تلقيت على هاتف المدرسة مكالمة من مدير إدارة التعليم الثانوي بوزارة التربية يقول فيها: معي فلان الذي تريد الزواج بابنته، كم تدفع لي مقابل الشهادة لصالحك، وخطف والد العروس المبتغاة سماعة الهاتف وقال لي ضاحكًا: يا زول مبروك.. وكل بضع سنوات أقول لوالد زوجتي: مبروك. اختيارك زوج ابنتك كان موفقًا.