حين يقسو النيل على الخرطوم
شهد النيل ارتفاعاً كبيراً بصورة مفاجئة فجر أمس في أغلب الأحباس ونقاط الارتكاز رغم تراجعه خلال اليومين الماضيين، وسجلت المياه زيادة كبيرة هددت عددا من المناطق، وشهدت جزيرة توتي أمس حالة استنفار قصوى لتدارك خطر الفيضان الذي يحاصر الجزيرة من جميع الاتجاهات خاصة المنطقة الشرقية المحازية لمدينة بحري، وفي خطوة متوقعة منذ بداية موسم الفيضان أواخر شهر يوليو الماضي، وفي شمبات مع ارتفاع مناسيب النيل لحدودها القصوى والتي لم تبلغها منذ مائة عام تضررت 162 أسرة من المزارعين والرعاة من الذين يسكنون بشمبات الزراعية (بالشريط النيلي)، وعلى ضفتي النيل الأزرق الذي لايزال يشكل تهديداً كبيراً على المدن والقرى التي يجاورها ويمر بجانبها وقد لاحظت “الصيحة” خلال تجوالها عبر كوبري المنشية التهديد الحقيقي الذي يمثله على المنشية والقادسية والجريف شرق.
ترسوا البحر
تشهد جزيرة توتي ومازالت حراكاً كبيراً من قبل مواطنيها كافة، والذين هبوا في حالة استنفار شعبي مدفوعاً بمجهودات رسمية لتدارك الخطر الموسمي الذي يحاصر الجزيرة كل عام، لكنه هذه المرة خطر الفيضان الذي يُطوق الجزيرة يُعد الأعنف مُقارنة بالأعوام السابقة، حيث تجاوزت المياه في عدد من الثغرات الحاجز “الترابي” الذي يحمي توتي.
“حالة استنفار”
بلغت حالة الاستنفار في توتي أمس أقصى درجاتها حيث أعُلن في المساجد المتعددة أن الموقف في الجزيرة يستدعي خروج أهلها خاصة الشباب بعد الارتفاع المفاجئ للنيل لسد الثغرات التي تتسرب منها المياه إلى داخل توتي، وعند العاشرة صباحاً توالت نداءات اللجنة الشعبية لمقاومة الفيضان بالجزيرة تدعوا أهالي المنطقة عن طريق عربة متحركة تحمل مكبرات صوت تُناشد المواطنين خاصة الشباب للتحرك إلى نقاط الارتكاز في الاتجاه الشرقي والغربي للجزيرة.
وفي جولة لـ “الصيحة” في جزيرة توتي أمس، رصدت تحرك وعمل عدد من الآليات الثقيلة “اللودرات” والقلابات والشاحنات الكبيرة المحملة بـ”التراب” لردم الثغرات التي تتسرب منها المياه، حيث تجاوزت المياه الجسر الترابي الذي يحمي الجزيرة في عدد من المناطق وغمرت المياه المُندفعة مساحات واسعة من الجنائن خاصة منطقة “هليس” التي تجاوزها النيل إلى الطريق الدائري وعبر منها إلى الجنائن المنطقة وتشكل تهديدا للجزيرة، ومن الارتكازات التي تُقلق مضاجع الجزيرة أيضاً منطقة “جلاب” وهي تشكل خطورة زائدة، وشهدت أيضاً منطقة “برقان” التي تقع في الجهة الشرقية المحازية لمدينة بحري وتُعد من أخطر المناطق التي تُهدد توتي في موسم الفيضان وسبق أن تسربت المياه من خلالها في الفيضانات المشهورة سنة 1946 وسنة 1988، وآخرها في العام 1998، حيث شهدت “ثغرة” برقان تجاوزاً كبيراً وتسربا للمياه ولكن بجهد الآلات والدفاع المدني لولاية الخرطوم، فضلاً عن مجهودات المواطنين تم ردم الثغرة.
“جهد شعبي ورسمي”
وأكد رئيس لجنة الفيضان بتوتي د. عثمان السيد أن الموقف تحت السيطرة حتى الآن، مُشيراً إلى أن عمل عدد من الآليات لتقوية الجسر الترابي، وتقفيل جميع الثغرات من الجنائن التي تؤدي إلى داخل توتي، ونوه إلى أن الجزيرة تتحسب بالآليات والجهد الشعبي لزيادة النيل المتوقعة، وخلال اليومين الماضيين تفقد معتمد الخرطوم الفريق ركن أحمد علي عثمان أبو شنب، وعدد من أعضاء حكومته توتي، ووقفوا على الثغور التي تُهدد الجزيرة ووجه بزيادة العربات والآليات وتوفير كمية كبيرة من الجوالات لمواجهة الفيضان والزيادة المُرتقبة لمنسوب المياه عقب هطول الأمطار وارتفاع النيل في جميع الأحباس.
“توتي تقاوم”
خبر أهل توتي مصارعة النيل منذ أمد بعيد وفي كل موسم فيضان يشكلون لوحة عظيمة للتعاضد والتعاون العفوي للذود عن “درة النيل” التي ظلت صامدة تقاوم بجهود أهلها الذين اختارتهم الأمم المتحدة جزيرتهم ضمن أفضل ثمانية مناطق على مستوى العالم في استخدام المهارات التقليدية والثقافة المحلية للحد من مخاطر الفيضانات.
رواكيب ومشمعات
وفي شمبات مع ارتفاع مناسيب النيل لحدودها القصوى والتي لم تبلغها منذ مائة عام تضررت 162 أسرة من المزارعين والرعاة من الذين يسكنون بشمبات الزراعية (بالشريط النيلي).. ودخل النيل إلى داخل منازلهم الطينية فهددها بالسقوط مما أدى لخروجهم منها حيث رحلوا شرقا إلى المنطقة الواقعة غرب السوق المركزي للخضر والفاكهة بشمبات بعد أن هرعوا إلى تلك المنطقة فرارا بحياتهم، وتعيش هذه الأسر الآن في رواكيب ومشمعات وخيام مفتقدين لأبسط مقومات الحياة وهي الماء النقي والطعام والنور..
خطوات احترازية
وكانت غرفة الطوارئ بشمبات ومؤسسة شمبات الاجتماعية (النيمة) ومنظمة شمبات الخيرية واللجان الشعبية بشمبات وديوان الزكاة وعدد من الخيرين قد وزعوا طعاما ومياها نقية ومشمعات أمس للمتضررين، وأشارت المنظمات الطوعية بشمبات في تنويرا صحفيا عقد أمس بمقر النيمة بشمبات أنه تم عمل عدد من الخطوات الاحترازية لمجابهة فيضان النيل فتم حفر عدد من المصارف منها مصرف عبد الله الصادق – والذي يشق مزرعة أبرسي – ومصرف الأنصاري (المرسى) بشمبات الزراعية وأمن المؤتمر الصحفي على الدور الذي اضطلعت به البلدة عبر منظماتها الخيرية لدرء كارثة الفيضان عبر حملات الإصحاح البيئي والإسعافات الأولية وبنك الدواء.
وأشار رئيس غرفة الطوارئ بشمبات د. سعد محمد أحمد إلى أن هناك 162 أسرة تضررت من فيضان النيل وهي الأسر المتاخمة للنيل مما اضطرهم للتوجه شرقا إلى شارع مور غرب السوق المركزي بشمبات حيث أقاموا رواكيبهم على طول الطريق الغربي بشمبات، وأضاف أحمد بأن المتضررين جميعهم من البسطاء الذين كانوا يعملون كمزارعين أو رعاة للحيوانات الموجودة في الحزام المتاخم للنيل وهم يسكنون في منازل طينية بجوار النيل وقد غمرت هذه المنازل تماما بالمياه مما أضطرهم لتركها فرارا بأرواحهم، وأضاف أحمد بأن هؤلاء البسطاء يسكنون الآن بالعراء دون ماء أو طعام أو (حمامات) أو كهرباء مضيفا بأن غرفة الطوارئ بشمبات والمنظمات الخيرية كمنظمة نفير وغيرها ومحلية بحري ووزارة الرعاية الاجتماعية قدموا أمس وجبة طعام للأفطار وبعض المياه النقية والمشمعات للأسر المتضررة، مضيفا بأن هناك عددا من مواطني شمبات تضرروا بتلف مزارعهم ونفوق حيواناتهم من ماشية ودواجن بفعل انغمار المزارع بمياه النيل .
افتراش الأرض
وقال أحد المتضررين –فضل حجب اسمه – إنهم الآن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويجلسون بالقرب من الشارع الغربي بشمبات مضيفا بأن لديه أطفال يتعلمون وهم الآن تركوا المدارس بفعل الفيضان، مضيفا بأنه لم يستطع إخراج أثاثه واكتفى بإخراج أسرته وسريرين فقط وخرج مسرعا قبل أن ينهار المنزل فوق رؤوسهم، وأضاف بأن أمطار الأمس كانت تضربهم فوق رؤوسهم مباشرة، وكان يتغطى فقط ب(سويتر صغير) مضيفا بأنه منذ أن فاض النهر كان يحاول ألا تصل المياه إلى الزراعة ولكن النيل تغلب عليهم وأصيبت أسرهم بالالتهابات، وطالب الحكومة بتعويضهم بمكان آمن .
لجنة طوارئ
والتقت “الصيحة” بمرتضى مجذوب محمد الحسين، الذي أشار إلى أن لجنة طوارئ الخريف مكونة من لجنة ديوان الزكاة وبتنسيق من مولانا الخير يوسف نورالدين ورئاسة د. فايزة محمد الخليفة مدير المصارف بديوان الزكاة بولاية الخرطوم واللجنة مشكلة من عدد من الأقسام بديوان الزكاة بالتعاون مع لجنة الطوارئ بوزارة التنمية الاجتماعية التي أشارت إلى أن وحدتهم بديوان الزكاة وفرت وجبة تحتوي على 260 كرتونة طعام تكفي لحوالي أربعة أيام بالإضافة لمياه نقية .
تروس وسدود
وعلى ضفتي النيل الأزرق الذي لايزال يشكل تهديداً كبيراً على المدن والقرى التي يجاورها ويمر بجانبها وقد لاحظت “الصيحة” خلال تجوالها عبر كبري المنشية التهديد الحقيقي الذي يمثله على المنشية والقادسية والجريف شرق، بالرغم من التروس والسدود الترابية التي تحمي هذه المناطق منه. فقد لفت نظر الصحيفة الوجود الكثيف لشرطة الدفاع المدني بزيهم المميز وحملهم لأدوات الطوارئ ومعدات الحفر والطمر ويقظتهم الكبيرة كيف لا ولم يتبق له سوى كورنيش النيل حتى يصل إلى منطقة المنشية من الجهة الغربية .ولاحظت “الصيحة” محاولة مياه الأزرق الكبرى للتسلل عبر كبري المنشية للدخول إلى الكورنيش لولا سدها بعد ذلك بعدد من الجوالات المليئة بالتراب وحراستها بعدد من أفراد الشرطة .
سد منيع
وفي الجانب الشرقي قبالة منطقة الجريف غرب والقادسية وقف السد الترابي سداً منيعاً أمام المياه ولولاه لوصلت المياه إلى المناطق المأهولة بالسكان وأحدثت بها دماراً شاملاً، واستطلعت الصحيفة عددا من المواطنين والذين أكدوا على أن النيل الأزرق لم يصل إلى هذا المستوى من قبل، وقالوا بأنه يشكل تهديداً على مناطقهم إذا استمر في الازدياد والسرعة بهذه الطريقة في مقبل الأيام، ولكن يبدو أن عددا كبيرا من المواطنين والأسر والشباب والسياح الأجانب قد اطمأنوا إلى تدابير الشرطة والمحلية في حمايتهم من أخطار الفيضانات والسيول والأمطار فخرجوا بأعداد كبيرة إلى الشاطئ والكورنيش للترفيه وإلتقاط الصور التذكارية والسيلفي وآخرين عمدوا إلى الصيد فيما انتعشت حركة السياحة النيلية في المواعين والمراكب السياحية على الشاطئ غرب كبري المنشية، وتحلق آخرون حول بائعات الشاي والذين تناثرت مقاعدهم هنا وهناك خاصة مع الجو الخريفي وزخات الأمطار الخفيفة والتي زادت الأجواء جمالا وانتعاشاً وحيوية حيث لم تسطع الشمس من الصباح وحلت محلها السحب الماطرة والغيوم.
الصيحة