تحقيقات وتقارير

لم تعد قاصرة على حمل البطاقات المزيّفة انتحال صفة الشرطي.. محتالون في هوية مستعارة


دأبت على الخروج صباحاً من منزلها وهي ترتدي البزة العسكرية المميزة لقوات الشرطة السودانية، تزينها ثلاث نجمات على كتفيها توضح أنها ضابط برتبة نقيب، هندامها وخطواتها العسكرية الواثقة وطريقة حديثها وإلمامها ببعض مواد القانون جعلها في نظر من تتعامل معهم أنها شرطية من طراز رفيع، ولم تساور أحد الشكوك في حقيقة هويتها، وبعد ثلاث سنوات من تقمص شخصية ضابط الشرطة تسببت شاشات بلازما في سقوطها في يد من كانت تنتحل صفة المؤسسة التي يتبعون إليها، لينتهي بها المطاف خلف القضبان مثل غيرها من الذين انتحلوا صفة رجال الشرطة حتى يتمكنوا من ممارسة الجريمة تحت غطاء رسمي.
ذكاء خارق
الفتاة الثلاثينية التي تم إلقاء القبض عليها أخيرًا وهي تنتحل صفة ضابط برتبة ملازم شاءت الأقدار أن تضع حداً لمسلسل تقمصها شخصية رجل الشرطة عقب ورود بلاغ من جهة عسكرية الى الشرطة التي كونت فريقاً لتقصي حقيقتها والقبض عليها عقب استلامها مبلغ 28 ألف جنيه بدعوى إحضار شاشات بلازما عبر التقسيط ومن ثم تواريها عن الأنظار كلياً، وتم البحث عن اسمها في سجلات الشرطة وتبين أنها ليست منضوية تحت لوائها، وعقب كمين محكم تم إلغاء القبض عليها، واتضح من التحريات أنها تتمتع بذكاء خارق وقد أحرزت في الشهادة السودانية نسبة عالية بلغت 88%، إلا أنها لم تكفل لها دخول الجامعة وهي الآن قيد التحريات بعد أن تم توقيفها، وأشار مدير دائرة الجنايات بشرطة ولاية الخرطوم اللواء سر الختم نصر إلى أن بروز مثل هذا النوع من الجرائم يحدث لوجود فجوة اجتماعية في الأسرة، وأوضح أنها ليست ظاهرة بل حالة فردية، وكشف عن تمتع الضابطة المزيفة بنسبة ذكاء عالية.
تشكيل عصابي
وحادثة أخرى قوامها أربعة من الشباب اتجهوا الى تشكليل تنظيم عصابي وهداهم تفكيرهم الشرير إلى اختطاف رجل من داخل منزله بحي العشرة بالخرطوم في رابعة النهار مستغلين عربة خاصة واتجهوا به صوب منطقة خلوية، ولم يتركوا للرجل مساحة للتفكير بعد أن استولوا على شنطة من داخل منزله بدعوى الاشتباه فيه بزعم أنهم أفراد في الشرطة لينهبوا منه مبلغ “11” ألف دولار، وكانوا يعتقدون أنهم بفعلتهم هذه لن تطالهم يد القانون، ولكن مثل غيرهم من الذين ينتحلون صفة رجال الشرطة، فقد تم توقيفهم وإيقاع عقوبة قاسية عليهم تمثلت في السجن أحد عشر عاماً والغرامة خمسة عشر ألف جنيه.
نظامي سيادي
ومن أكثر العمليات جرأة تلك التي ارتكبها من كان يعتقد أن خطته ستنجح بنسبة 100% وذلك حينما سطا ومعه مجموعة على محل مجوهرات تبيدي بأم درمان، وكان المتهم يستخدم بطاقة تثبت أنه منتسب للقصر للجمهوري، في ذلك اليوم استيقظت الشرطة وواجهت تحدياً كبيراً لأن المنتحل نفذ خطته باحترافية لجهة أن البطاقة التي كان يحملها لا يمكن تزويرها وكذلك لا يمكن الادعاء بالانتساب للقصر الجمهوري لحساسيته كجهة سيادية، ورغم أن القضية كانت معقدة وحظيت باهتمام كبير من الرأي العام إلا أن الشرطة تمكنت في وقت قياسي من الوصول إلى الجاني.
أفلام الإكشن
وعلى طريقة الأفلام الأجنبية من نوعية “الإكشن” تمكن شخصان من نهب منزل يقطنه “أحباش” وذلك حينما أشهروا بطاقات تؤكد أنهم رجال شرطة وذلك بحي أركويت شرق، وكانت حصيلتهم خمسة هواتف حديثة ومبلغ ألف جنيه، وبعد الحادثة استغلوا ركشة للفرار باعتقادهم أن مهمتهم اكتملت بنجاح إلا أن من انتحلوا صفتهم تمكنوا من الوصول إليهم سريعاً وتم إلقاء القبض عليهم.
الذهب والاحتيال
لم تتوقف عمليات انتحال صفة رجل الشرطة وجرائمها على المدن الكبرى مثل الخرطوم فقط، فقد اتجه بعض من المخالفين للقانون الى مناطق التعدين عن الذهب بولاية نهر النيل حيث اتخذوا موقعاً بطريق شريان الشمال للإيقاع بضحاياهم بزعم أنهم يتبعون للشرطة ويريدون إجراء تفتيش على أمتعة وعربات المنقبين عن الذهب ليمارسوا النهب حيث أوقعوا بالعديد من الضحايا، إلا أن الشرطة الحقيقية تمكنت من الإيقاع بهم في ذات المنطقة التي يتخذونها نقطة تفتيش حيث عثرت على اثنين منهم يستقلان “دراجة نارية ” وحينما شرعت في تفتيشهما أشارا إلى تبعيتهما لإحدى الجهات النظامية، وأن مهمتهما تفتيش القادمين من مناطق الذهب، وبتفتيشهما عثرت الشرطة على كلباش بحوزة أحدهما كما عثرت بطرفهما على مبالغ مالية مزيفة بلغت أكثر من (20.000) جنيه من فئة الخمسين، ليتم اقتيادهما إلى قسم شرطة دائرة الاختصاص وتدوين بلاغات في مواجهتهم؛ تحت المواد 117/21/93 ق ج، المتعلقة بتزييف العملات والاشتراك الجنائي وانتحال صفة النظاميين.
إبراز الهوية
وعلى طريقة رجال الشرطة بالمملكة العربية السعودية داهم شباب ينتحلون صفة رجال الشرطة عدداً من المنازل التي يقطنها الأجانب بحي جبرة بالخرطوم، وطالبوا من يقطنون بالمنازل إبراز ما يثبت أن دخولهم إلى السودان شرعي، وعبر هذه الحيلة نجحوا في تنفيذ عمليات نهب ولكن أيضًا في خاتمة المطاف توقفت رحلة انتحالهم بعد أن تم إلقاء القبض عليهم.
الأفارقة لهم نصيب
وحادثة أخرى تعرض لها أجانب وهم طلاب من نيجيريا الذين داهمهم بمقر إقامتهم بحي أركويت أشخاص كشفوا أنهم يتبعون للشرطة وبدعوى الاشتباه والتفتيش استحوذوا على أجهزة حاسوب محمولة وهواتف سيارة وجوازات سفر، وكان أحد الجناة يحمل مسدساً وبعد خروجهم من المنزل استقلوا دراجة بخارية ولاذوا بالفرار إلا أن الطلاب أبلغوا الشرطة التي بالتأكيد تكون قد وصلت إليهم.
زميل
ونوع من انتحال آخر ينتهجه البعض وذلك بتأكيد انتمائهم الى الشرطة وعند مطالبتهم بإثبات الادعاء يفشلون في ذلك، وأمثال هؤلاء يتم فتح بلاغ انتحال ضده، ومن قبل وقع تاجر ضحية لادعاء أطلقه ولم يثبت وذلك حينما قال لرجال شرطة إنه زميل “أي شرطي” وعندما تمت مطالبته بإثبات زعمه فشل، واتضح أنه ليس “زميلا”، وحتى النظاميين السابقين فإن بعضاً منهم عند تعريف نفسه فإنه يشير الى رتبته دون الإفصاح عن أنه أحيل الى التقاعد وهذا ما حدث أثناء محكمة ضابط سابق بتهمة شيك مرتد، فقد قال للقاضي إنه ضابط نظامي وحينما طالبه القاضي باستخراج ما يثبت عجز عن ذلك واتضح أنه أحيل إلى المعاش فما كان من القاضي إلا أن وبخه على ادعائه هذا.
ضعف ثقة
سألت الخبير بمركز أبحاث الجريمة معتصم الخليفة عن أسباب تفشي ظاهرة انتحال صفة رجل الشرطة لتنفيذ جرائم بحق المواطنين، فأشار الى أن الكثيرين لا يدققون في البطاقات التي يشهرها من يدعون الانتماء إلى الشرطة، ويلفت الى أن المحتال ينتقي ضحاياه بعد تمحيص جيد قبل الإيقاع به في فخه، ويرى أن انتحال صفة رجل الشرطة من أخطر الجرائم وذلك لأنها تمثل إشانة سمعة لجهاز مهمته الأساسية السهر على حماية أرواح وممتلكات المواطنين ومحاربة الجريمة، معتبرًا أن مثل هذه الجرائم تسهم في إضعاف ثقة المواطن بالشرطة رغم أن الأفراد الرسميين لا يرتكبون مثل هذه الجرائم، موضحاً أن عدداً من المنتحلين وبترددهم على أقسام الشرطة بعد ضبطهم اتضح أن هذا الضرب من الإجرام بات مهنة يحترفونها، ويشدد على أن تفادي الوقوع في يد المنتحلين يحتم على المواطن الاستيثاق من البطاقة التي يبرزونها وذلك بالتأكد من أنها تتبع للشرطة، وقال إن من حق المواطن حتى على النظامي الحقيقي أن يرى بطاقته العسكرية .
عقاب صارم
من ناحيته يؤكد المحامي باسم عبد الرحيم أن انتحال صفة شرطي تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون وفقاً لنص المادة”93” انتحال صفة نظامي، وقال لـ(الصيحة) إن الضحية في أغلب الحالات يكون قد ارتكب مخالفة، ولهذا يجد المنتحل سهولة في خداعه، وأضاف: ومثل هولاء يدرسون ضحاياهم جيداً دون أن يشعروا بهم، وتختلف العقوبة حسب الجرم المرتكب، إلا أن العقوبة يتم تشديدها على النظاميين السابقين، ويضيف أن عقوبة منتحل رجل شرطة تصل إلى السجن عامين أو حسب تقديرات المحكمة وفي حالات كثيرة تلجأ المحكمة إلى تكوين محاكم خاصة يكون لها الحق في تشديد العقوبة، وأوضح بالشرح أن عقوبة السجن عامين هذه موضوعة للسلوك العام، وقال إن القانون لا يفرق بين الذكر والأنثى وأن العقوبة واحدة تطبق عليهم الاثنين، وختم حديثه بضرورة توعية المواطن بخطورة الانتحال وأن يتم تثقيفه في كيفية التعامل إذا ساورته الشكوك بأن الذي أوقفه ليس نظامياً، مطالباً بضرورة تشديد العقوبة حتى تتراجع هذه الظاهرة وتختفي.
سلوك خاطئ
ويشير أستاذ علم نفس الدكتور معتصم الجيلي إلى أن معظم الذين يرتكبون جرائم انتحال شخصية النظاميين يعانون من مشاكل نفسية وأنه نتيجة لهذا الأمر يتجهون الى تكملة النقص الذي يشعرون به عبر الاحتيال على الأبرياء بدعوى انتمائهم للشرطة، ولفت إلى أن بعضاً من الذين يمارسون الانتحال في الأصل هم مجرمون ضيقت عليهم الشرطة الخناق في النشاط الإجرامي الذي كانوا يمارسونه فلم يجدوا غير الاتجاه الى الانتحال، وقال إن تطور التقنية في استخراج بطاقات ممغنطة ساعد بعض المجرمين في امتلاك بطاقات عسكرية، ويرى أن الجريمة والأوضاع الاقتصادية على علاقة مباشرة، ويفسر قوله هذا بالإشارة الى أنه كلما حدث تردٍّ اقتصادي وازدادت البطالة ترتفع نسبة الجريمة، معتبرا الانتحال بخلاف الأمراض النفسية ايضاً من إفرازات الأوضاع الاقتصادية والبطالة.
أسباب متعددة
إذن كيف ينظر رجال الشرطة الى هذه الظاهرة، يجيب الفريق شرطة عثمان فقراي على سؤالنا هذا بالإشارة إلى أن الذين ينتحلون صفة النظاميين يعرفون جيداً مكانة الشرطة في نفوس المواطنين ومدى ثقتهم فيها لذا فإنهم يستغلون هذه العاطفة ويعملون على الاحتيال باسمها عبر استخراج بطاقات مزورة، ورغم غضب فقراي من هذه الظاهرة التي يصفها بالخطيرة إلا أنه يعتبر أن الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد واستشراء الفساد وتفشي البطالة دفع بعض ضعاف النفوس الى الخروج عن جادة طريق القانون، ويعتقد أن سهولة تزوير البطاقات النظامية ساعد في تفشي هذه الظاهرة، لافتاً الى أن الشرطة فيما مضى كانت تضم إدارة تسمى المهمات وهي التي تستخرج البطاقات العسكرية وتوزع الزي الرسمي، وكان هذا النظام بحسب فقراي يحول دون انتحال صفة رجل الشرطة، وقال إن الاحتيال فيما مضى كان محدوداً وعبر تزوير البطاقات إلا أن الواقع يؤكد بأن انتحال صفة الشرطي وصل الى مرحلة ارتداء أزياء ضباط، مرجعاً هذا الى توفر الزي الشرطي وعدم ضبطه، ويرى بأن تكليف الشركات باستيراد أزياء الشرطة ومستلزماتها من أكبر الأخطاء، مشدداً على ضرورة أن تؤدي الشرطة هذه المهمة عبر إحدى إداراتها، ويلفت الفريق عثمان فقراي الى ضرورة تنظيم ورشة عمل لمعرفة أسباب انتشار ظاهرة انتحال صفة رجل الشرطة وإيجاد حلول ناجعة لهذه القضية.

الصيحة