كيف يبدو عالم ساعات العمل الإضافية المرهقة في الصين؟
يعمد كثير من الصينيين العاملين في شركات ناشئة إلى زيادة ساعات عملهم أكثر مما مضى، حتى إنهم ينامون في مكاتب عملهم. لكن هل يعني هذا أن قدرتهم الإنتاجية تزداد؟
لم تصبح أندريا وو متدربة لدى شركة “يتو تكنولوجي” الناشئة بشنغهاي إلا قبل شهرين فقط، غير أنها تشعر منذ ذلك الحين وكأنها في بيتها.
تقول أندريا إن بيئة العمل في الشركة مريحة، فهناك آلة بيانو لقضاء أوقات موسيقية مرتجلة عند الحاجة إلى الراحة، وثلاجة مليئة بالمرطبات، والوجبات الخفيفة. وتقول: “لدينا كل يوم حساء يعده طباخ الشركة، وأحيانا يقدمون لنا لحما بقريا، وفي أحيان أخرى الفاصوليا الخضراء”.
وتقدم أيضا وجبة خفيفة في العاشرة مساءً لموظفي قسم الأبحاث والتطوير الذين يعملون حتى أوقات متأخرة، وهو ما يحدث في أغلب الليالي. إضافة إلى قسم صغير في الدور العلوي يحوي سريراً لإغفاءة قصيرة قد يحتاجها أحد العاملين.
غالباً ما تقضي أندريا، التي تعمل ضمن فريق التجارة والمبيعات، ساعات طوال في العمل، من التاسعة والنصف صباحاً حتى التاسعة والنصف مساءً. ويوم زيارتي للشركة، توجهت بعد وجبة الغداء إلى فراش الدور العلوي لتأخذ غفوة، ورتّبت فردتي حذائها بشكل جميل بجانب درجات السلم المؤدي إلى غرفة النوم الصغيرة تلك.
غير أنها لم تكن لتشكو من أي شيء. ويعد تفانيها هذا في العمل أمرا معتادا في قطاع شركات التقنية الناشئة في الصين.
وتقول أندريا: “يريد الجميع أن ينهوا مهام أعمالهم قبل تركهم مكان العمل”، مضيفة: “يكدّ الناس ليكوّنوا قيمة خاصة بهم. لدينا الكثير لننجزه، ولكن ليس لدينا الكثير من العاملين، لذا يقوم كل واحد بعدة مهام”.
وتعد ساعات العمل الطويلة أسلوب حياة للكثيرين في الصين، وفي مختلف قطاعات العمل.
وبحسب إحدى التقديرات التي أجراها أحد الباحثين من جامعة إعداد المدرسين ببكين، يعمل الموظفون الصينيون بمعدل يصل ما بين 2000 إلى 2200 ساعة عمل سنوياً، وهو معدل أكثر بكثير مما هو عليه الحال في الولايات المتحدة الأمريكية (1790 ساعة سنويا)، وهولندا (1419)، وألمانيا (1371) ، وحتى اليابان (1719)، استناداً إلى إحصائيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ليس جميع من في الصين سعيداً بهذا الأمر. في لقطة فيديو انتشرت بسرعة النار في الهشيم على الإنترنت خلال هذا الصيف، خصصت فرقة هواة من شنغهاي أغنية لاذعة تحكي حال العمال الصينيين، وتصفهم بتعبير شائع بين العامة هناك بأنهم “كلاب ساعات العمل الإضافية”، وعنوان هذه الأغنية هو “جسمي مُفرّغ”.
تقول كلمات الأغنية: “من يحتاج إلى النوم؟ يا له من إضاعة للوقت!”، وتقول أيضاً: “من يحتاج لأن يأكل إذا كان برنامج ’باوربوينت‘ هو مصدر رزقه؟”.
وأصبحت ساعات العمل القاسية في الصين تمثل مصدرا من مصادر القلق. وفي الحقيقة، بدأت الحكومة تنتبه لهذا الأمر.
وفي صحيفة “الصين اليوم” الرسمية، نُشر في عام 2012 مقال رثاء يتناول حالة تجسد ما يعرف باسم “كاروشي”، وهو مصطلح ياباني يعني “الموت من الإرهاق”، وقد أصبحت مثل تلك الحالات حقيقة واقعة في الصين. كما أشار المقال إلى أن قوانين العمل في الصين لا تحمي بشكل كافٍ حقوق العاملين.
كما أشارت دراسة أجريت عام 2014 عن ساعات العمل في الصين إلى أن ما هو متبع في أجواء العمل في ذلك البلد يساهم في منعه من تبوء مركز عالمي أكبر للإنتاج.
وعند صدور التقرير، قال لاي ديشينغ، عميد كلية الإدارة بجامعة إعداد المدرسين ببكين في أحد المؤتمرات إن العمل لساعات أقل لن يحسن فقط من الإنتاجية، وصحة العاملين، بل “سيساعد أيضاً في تعجيل اتجاه التحول الاقتصادي من شعار ’صنع في الصين‘ إلى ’صنعته الصين‘.”
التكلفة وسرعة الإنتاج
ورغم ذلك، وبدلاً من تبنّي هذه النصيحة، تطلب الشركات الصينية الناشئة، وخاصة تلك العاملة في قطاع التقنيات، من العاملين فيها أن يخصصوا ساعات عمل أكثر من السابق.
وتقدم مثل هذه الشركات وجبات ليلية للعاملين، كإحدى وسائل المساعدة للاستمرار في العمل. حتى إن بعض الشركات، مثل شركة الحوسبة السحابية “بايشانكلاود”، ذكرت أن مكاتبها تضم أسرّة نوم من طابقين لكي يغفو العاملون خلال النهار، أو إذا ما عملوا خلال الليل.
وتتعلم العديد من الشركات الناشئة من خطوات تتخذها شركات عملاقة في مجال التقنيات، مثل شركة علي بابا، حيث ينصب العاملون خيمهم في ربوع الشركة ليناموا فيها في الأيام التي تسبق أكبر يوم في السنة للمبيعات على الإنترنت.
أما شركة هواوي فقد اشتهرت في أيامها الأولى بما سُمي بـ”فلسفة الفِراش”، وهو مصطلح استُعمل لوصف الفرش الرقيقة التي كان المهندسون يحتفظون بها تحت طاولات أعمالهم لاستخدامها عند عملهم حتى أوقات متأخرة.
من المؤكد أن ذلك لا يفيد رؤوس الأموال الاستثمارية الضخمة التي لا تزال تتدفق على الصين رغم المخاوف الناجمة عن تباطؤ اقتصاد البلاد.
وقد بلغت رؤوس الأموال المتدفقة إلى الصين أرقاماً قياسية، وصلت إلى 37 مليار دولار أمريكي في عام 2015، وفقا لشركة بلوومبيرغ. ويعد هذا ضعف ما تدفق إلى ذلك البلد الآسيوي في العام السابق لذلك، مما يجعل المنافسة مستعرة في عالم التقنيات.
إن أجواء العمل تحت ضغط في الشركات الصينية الناشئة تعد أسوأ حتى من متطلبات وظروف العمل في وادي السيليكون نفسه، حسبما يقول غاري ريستشيل، المؤسس الأمريكي المشارك لشركة “كيمينغ فينتشير بارتنرز” الداعمة لشركة شاومي للهواتف الذكية.
وأحد الأسباب، حسب قوله، هو أنه بالنسبة للعديد من شركات التقنية الناشئة في الصين، لا يعتمد أسلوب العمل التجاري على أفكار مميزة، بل يكون العمل معتمدا على مكان آخر؛ مثل شركة ناشئة أخرى في الصين، أو شركة موجودة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولا يدع ذلك لأصحاب الشركات إلا مجالين للمنافسة، هما التكلفة والسرعة.
ويقول ريستشيل: “عندما تتنافس في مجالي التكلفة والسرعة، فلن يكون أمامك إلا أسلوب عمل واحد فقط تتبعه لتحقيق النجاح، ألا وهو العمل لمدة 24 ساعة في اليوم، طوال أيام الأسبوع، وطوال أيام السنة”.
يقول كين شو، الشريك في شركة “غوبي بارتنرز” الناشئة، إنه بالنسبة لكثير من العاملين الشباب في قطاع التقنيات، ليست هناك معالم واضحة للتوازن ما بين الحياة والعمل، فالعمل هو حياتهم.
وينتقل الكثير من الشباب ليستقروا في مدن لا يجدون فيها أقارب، أو أصدقاء، لذا فإنهم يفضلون البقاء حتى وقت متأخر في أماكن العمل ليكسبوا مالاً أكثر، ويكونوا صداقات مع زملائهم في العمل خلال الفترات الطويلة من استراحات تناول وجبات الطعام.
كما توفر الشركات الناشئة ذات التمويل القليل وسائل للراحة أيضا، مثل خدمة الإنترنت فائقة السرعة، وألعاب الفيديو، ووجبات مجانية.
ويقول شو: “بإمكانهم التمتع باستراحة قصيرة ليمارسوا لعبة أو ليتحدثوا مع آخرين”. ويضيف: “عندما يعودون إلى بيوتهم، يقومون بنفس الشيء، ممارسة لعبة ما أو مشاهدة الفيديو.”
ويتابع: “لا يتعلق الأمر بالعمل، فذلك جزء من نمط حياتهم. إنهم لا يريدون الذهاب إلى بيوتهم، بل مجرد البقاء في العمل.”
نمط العمل في وادي السيليكون
تعمل شركة “يتو تكنولوجي” في مجال الرؤية الحاسوبية، وتطوير تقنيات متقدمة للغاية يمكنها التعرف على ملامح الوجه، والسيارات، من أفلام ملتقطة بشكل مباشر. وعانت هذه الشركة الكثير لكي تصل إلى هذه الحياة الهانئة في مكاتب العمل.
وقضى المؤسس المشارك لياو تسو عقداً من الزمن في الدراسة والعمل في الولايات المتحدة الأمريكية حتى نال شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا (لوس أنجليس)، وزمالة بعد الدكتوراه في معهد ماساتشوستس للتقنية. وعندما عاد إلى الصين لينشيء شركته، سعى إلى جلب بعض مما هو متبع في الشركات الناشئة في الولايات المتحدة الأمريكية.
نعم، إن ساعات العمل طويلة، لكنه يقول إنها مرنة، وبإمكان العاملين أخذ فترات استراحة طويلة لتناول الغداء والعشاء. أما أصحاب العائلات، فبإمكانهم بدء العمل مبكراً لكي يستطيعوا مغادرة مكاتب العمل بحلول الساعة الثامنة مساءً.
وتوجد في الصالة الكبرى طاولة لعبة (فوسبول)، وجهاز إكس بوكس، وهي شائعة لدى الرجال والنساء على حد سواء. وفي أيام السبت، يأخذ العاملون استراحة خاصة لممارسة مباريات منظمّة في كرة السلة.
وفي مكان العمل نفسه، توجد كراسي مريحة للجسم ذات وسائد للرأس أختيرت من قبل تسو نفسه وبسعر ثلاثمائة ألف رنمينبي (450 دولار أمريكي) لكل واحد منها.
ولا يوجد زي عمل نظامي، ويمكن للعاملين اراتداء تي شيرت، وسراويل قصيرة، وأحذية رياضية. وتقيم الشركة أيضاً، مرة كل أسبوع، حلقة دراسية مصغرة أو ندوة على نمط مؤتمرات “تيد” الشهيرة، حول مواضيع تتعلق بالتقنيات الحاسوبية الجديدة ونظرياتها.
وتعد ساعات العمل الطويلة في شركة “يتو” أمرا مسلّما به، وتصل في العادة 11 ساعة يومياً، عدا أوقات الاستراحة لتناول الغداء والعشاء. لذا حاول تسو خلق جو عمل يكون على الأقل محفزاً ويتطلب المشاركة.
ويقول تسو: “أعتقد أن الشباب هنا يهتمون أكثر بنمو العمل. إنهم يريدون تعلم شيء، وليس فقط إنجاز مهام معينة.”
قضايا تتعلق بالثقة
لكن هناك نواحٍ سلبية واضحة للعيش في أماكن العمل، ومنها الإنتاجية على سبيل المثال. يقول ريستشيل إن هناك ميلاً في كثير من الشركات الصينية الناشئة لإظهار العاملين وجودهم في الشركة لوقت متأخر، حتى مع عدم وجود مهام لهم، وذلك لإثبات أنهم يمكثون في العمل لوقت متأخر.
إنه أشبه تماماً بما حصل في العديد من الشركات اليابانية خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
يقول ريستشيل: “هل هناك ضرورة حقيقية لكي يبقى العاملون طيلة ذلك الوقت، وكل يوم؟” ويعلق قائلاً: “لا توجد ثقة كافية في المجتمع الصيني، لذا إن لم يروك، فأنت لست فعالا إذاً؟”
كما يمثل الإجهاد مشكلة أخرى شائعة في بيئات العمل في الصين. هل يظهر العاملون في الشركات الناشئة أفضل كفاءة لديهم عندما يحرمون من النوم؟ وكيف يؤثر هذا على عامل أساسي آخر لنجاح الشركات الناشئة، ألا وهو الإبداع؟
يدرك شيآن أكسينغ، البالغ 24 عاماً، وهو مؤسس شركة إلينينغ لتقديم خدمات التخييم على الإنترنت، هذه المخاطر بشكل جيد. لكنه يضيف أنه يتوجب على الشركات الناشئة الناجحة في مجال التقنيات أن تجد التوازن الأنسب، فهو يعتقد أن العمل لساعات أقل ليس أحد الخيارات.
وقد شهدت شركته نمواً مضطرداً منذ إنشائها قبل سنتين، وحصلت خلال صيف هذه السنة على ثالث جولة من التمويل بلغ 20 مليون رنمينبي (3 ملايين دولار أمريكي). كما نمت القوة العاملة لديه لتصل إلى 60 موظفاً، وجلهم دون سن الثلاثين عاماً.
ويعمل أكثرهم حتى الساعة التاسعة مساءً كل ليلة، لستة أيام في الأسبوع. لكن ذلك لم يؤثر سلباً على الأداء، حسب قول أكسينغ.
ويضيف: “في الحقيقة، لا أشجع العاملين على النوم في مكاتب العمل لأني أعتقد أن نوماً أفضل في بيوتهم سيأتي بمردود أفضل من ناحية نوعية العمل”.
يُذكر أن مكاتب عمل شركة إلينينغ تتسم بقوة الإضاءة، ومنفتحة على بعضها وتقع في منطقة الشركات المبتدئة الجديدة في مدينة هانغتشو التي لا تبعد كثيراً عن مقر شركة علي بابا المترامي الأطراف.
ويضيف أكسينغ :”أكثر الشركات الناشئة في الصين لا تحتاج إلى كل ذلك الإبداع. ما هي بحاجة إليه أكثر من أي شيء آخر هو القدرة على التنفيذ، والشيء الأهم هو توظيف عاملين أكثر لتنفيذ المهام، وترك مهمة الإبداع للمديرين.”
ومثل تسو، مؤسس شركة يتو، يعتقد أكسينغ أن الأساس في تحفيز ذوي التعليم العالي والمستقلين بأفكارهم من الصينيين من جيل ما بعد التسعينيات هو عبر وسائل أخرى، مثل ملكية أكثر في أسهم الشركة، وتقاليد عمل يمكنهم الإيمان بها.
لا يهتم الشباب حالياً في الصين بما كان يهم أجيالهم السابقين من الانضمام إلى شركة كبيرة معتبرة تكون فيها الوظائف مستقرة، ولكن ربما يكون دورهم فيها هامشياً، حسبما يوضح. وهم يميلون أكثر إلى التشويق والإثارة الموجودة في شركة مبتدئة، يبنون فيها شيئاً من الأساس.
ولهذا السبب، لعل أسبوع عمل من 60 إلى 70 ساعة هو أفضل حل وسط بالنسبة للعاملين هناك.