منوعات

الحوار الوطنى.. ثم ماذا بعد 2

تستعد رئاسة الجمهورية لأيداع فى منضدة الهيئة التشريعية بعض التعديلات الدستورية التى إستوجبها إنفاذ توصيات الحوار الوطنى. ولابد لهذا الإيداع أن يجرى بأعجل ما يمكن فالدستور الإنتقالى يوجب إيداع أيما تعديل دستورى قبل ستين يوما من بدء التداول البرلمانى حوله. والفكرة من وراء الإرجاء هى أن يجرى تداول شعبى وأعلامى معمق حوله قبل المداولة البرلمانية ، فما الهيئة التشريعية إلا ممثل للشعب وعليها الاستماع لأرائه ومرئياته قبل إحداث أى تغيير فى الدستور فهو الوثيقة التى تعبر عن التوافق الوطنى ولايجوز التغيير فيها بالأهواء العارضة أو الملائمة السياسية لهذا الحزب أو ذلكم الآخر. بيد أن هذه التعديلات بالذات خضعت بالفعل لحوار كثيف طويل حولها فى مؤتمر الحوار فماهى بحاجة إلى مزيد حوار ولكنه الدستور قمين بالإحترام لنصوصه فى كل حال.
وثيقة الإصلاح ومسيرة الحوار:
والتعديلات المشار إليها تتضمن جملة من النصوص الجديدة والمعدلة لإنفاذ ما توافق عليه المشاركون فى الحوار الوطنى .ومنها إستحداث منصب لرئيس الوزراء وما يتصل بإحداث المنصب من علاقات بالهيئتين التشريعية والتنفيذية وكذلك تعديلات فى قانون الانتخابات ليتيح إنفاذ التوصية بتعيين نواب وممثلين بالهيئة التشريعية وهناك نصوص تتعلق بتنظيم الهيئات العدلية وفصل النيابة العامة من وزارة العدل ونصوص أخرى لإنفاذ ما رأى المتداولون فى الحوار الوطنى التعجيل بإنفاذه قبل الدستور الجديد .لا شك أن الإشارات التى يبعثها إيداع هذه التعديلات إشارات مهمة. وأولها جدية أهل الحكم للمسارعة فى إنفاذ التوصيات المتوافق عليها قبل جفاف مدادها. وثانيها العزم الأكيد على البدء الفورى فى إصلاح مؤسسات الدولة بما يتوافق مع مرئيات الحوار الوطنى .وقد كان الحوار الوطنى هو ذاته وليدا لمبادرة الإصلاح التى إبتدرها المؤتمر الوطنى وتبناها نيابة عنه رئيس الجمهورية ثم خضعت لها أجهزة الدولة كافة لما شرعها مجلس الوزراء وأعتمدتها الهيئة التشريعية. وقد شرع المؤتمر الوطنى فى وضع مصفوفة محددة لإجراء الإصلاحات فى الحزب وأجهزة الدولة ومن ثم أنتقلت مسيرة الإصلاحإلى شوط جديد لما جعلها الحزب والرئيس شعارا لبرنامجه الإنتخابى ( نقود الإصلاح نستكمل النهضة ) ومضت لتتمظهر فى فى خطة لإصلاح الحزب وكذلكم البيئة السياسية من خلال الحوار الوطنى وخطة إصلاح الدولة من خلال الوثيقة المعتمدة للإصلاح التى أجازها مجلس الوزراء وألزم الوزارات ببناء خططها وفاقا لها. وأما على صعيد الحزب فإنه رغم إستبطاء الكثيرين إنفاذ الإصلاح (وصاحب القلم أحدهم ) إلا إنه من غير الإنصاف ألا نشير إلى خطوات مهمة على جادة الإصلاح شهدها الحزب ومنها وأهمها مبادرة التجديد القيادى التى ترجل بموجبها حوالى الستين بالمائة من القيادات العليا للحزب ليسمحوا للحزب أن تجرى دماء جديدة فى شرايينه. وثانيها الإقرار العلنى بالحاجة للإصلاح وجعله شعارا وبرنامجا إنتخابيا للحزب . وثالثها الإقرار بأن الاصلاح لايمكن أن ينهض به الحزب الحاكم وحده ولو تآزر معه حلفاؤه المشاركون فى الحكم ،فلابد من توسيع نطاقه على مستوى التصورات وعلى مستوى الشراكة الوطنية فى الإيمان به والعزم على إنفاذه ليشمل أوسع طيف سياسى متاح ،ولذلك فإنه مما يحمد للمؤتمر الوطنى وشركائه صبرهم ومصابرتهم على تلكؤ وتعلل وتدلل بعض القوى السياسية والحركات المتمردة فى الإلتحاق به ، وهذا الحمد مشروط ليبلغ مبلغه أن يستمر الحزب وشركاؤه فى الإيمان بأن توسيع الإقتناع بالإصلاح من خلال الحوار وإيقاف التعانف والإحتراب هدف جوهرى لا ينبغى الحياد عنه مهما بعدت الشقة وكثرت فى مزالقها العثرات. ولن تخلو العقول من الأفكار الخلاقة التى تدرأ الخلافات وتضيق شقتها ، وتقارب بين الفهوم وتلائم بين النفوس وتؤلف بنعمة الله بينها . وكذلكم فإنه مما يجب أن يحمد الحزب عليه فى مجال الإصلاح فسحه فى المجالس تمن خلال تخليه عن الترشيح فىما يقارب ثلث المقاعد المتنافس عليها جغرافيا ، وتبنيه فكرة إلغاء النسبة المشترطة للتمثيل للقوائم، وذلك لجعل فرصة التمثيل المتنوع بالبرلمان فكرة قابلة للتحقق مع كثرة الأحزاب وتكاثر إنشقاقاتها. بيد أن فى روزنامة الإصلاح أمورا كثيرة مهمة لم تطلها يد الإصلاح بعد. وأول هذه الأمور مكافحة التكتلات القبلية والجهوية داخل الحزب وتفشى التنازع بسببها، ولا تزال السياسة المتبعة لا تبلغ مبلغ الرجاء فى مناهضة هذه الآفة المشهرة والجاهلية المنكرة ، ولا يزال الحزب يتأثر فى قراراته وإختياراته بمضاغطات أصلها جهوى أو قبلى. وثانية الأثافى بعد تلكم وليس بعيدا عنها هى عدم إنفاذ المعايير التى إعتمدتها وثيقة إصلاح الحزب عند إنتقاء قيادات الحزب والدولة ، وإرجاء الإنفاذ سببه عدم القدرة على تحقيق تقدم فى مكافحة ظاهرة التكتل الجهوى والقبلى داخل الحزب . هذا التكتل الذى أصبح له تمظهرات تهدد التماسك الحزبى فى كثير من الولايات . وثالثة ما نؤاخذ عليه الحزب هى ضعف قدرته على تعئبة قطاعاته وكوادره إلا إستثناء عند تعاظم التحدى وأما إمام التحديات الراتبة فما عنده إلا جهد المقل .
وثيقة الإصلاح الوطنى :
ومهما بذل المؤتمر الوطنى وأهل الحكم من جهود فى الإصلاح فإن عليهم ألا يفوتوا الفرصة السانحة لتحويل وثيقة الإصلاح السياسى والمؤسسى إلى وثيقة وطنية عليها توافق وطنى كبيربما توافق عليه المتحاورون فى قاعة الصداقة . وذلك بإستيعاب ما توافق عليه هؤلاء فى متنها وحواشيها ثم تحويل نصوصها إلى مصفوفة أعمال و واجبات وأعباء تلتزم القوى السياسية بالعمل إنتهاجاً لنهجها وإستقامة على جادتها.فلئن كان المؤتمر الوطنى قد تواثق على خطة لإصلاح شأنه الحزبى فإن هذا غير كاف، وإنما يتوجب عليه أن يقود بالتوافق مع أهل الحوار مبادرة لإصحاح البيئة السياسية وأصلاح النظامين الحزبى والسياسى فى البلاد. وكنت تمنيت قبل حين من الزمان يعد بالسنين ثورة تنتظم النظام السياسي بأسره والذى وصفته بأبى زلومة فقلت (إن الربيع الثوري الذي نحتاجه في السودان يبدأ بالثورة على الكلي قبل الجزئي ، ويطعن الفيل قبل طعن الظل. وأبو زلومة ههنا هو النظام السياسي بفكره القديم وخبرته غير المتوافقة وزعمائه التاريخيين، ولئن كان السودان هو الرائد للثورة العربية منذ نصف قرن من الزمان فهو مؤهل لقيادة ثورة من نوع جديد . وهي ثورة تعيد مواءمة الأوضاع السياسية والفكر السياسي والنخبة السياسية مع متطلبات الواقع وتحدياته . وأول شروطها هو رفع الوصاية الأبوية عن الأحزاب السودانية بدءاً بحزبها الشيوعي العتيد وأحزابها العربية الثورية القومية وأحزابها الوطنية التقليدية ، وانتهاء بمؤتمريها الشعبي والوطني. فالبطريكية السياسية هي بيت الداء. ورغم أن الاحترام والإجلال محفوظ للزعماء الكبار فعليهم توسعة الطريق للأجيال الجديدة تحت شعار “دعه يعمل دعه يمر” فإن لم يفعلوا فإن ربيع الثورة السودانية قادر على إفساح الطريق للسابلة الشباب على الطريق السياسي.
ثم أن هذه الأحزاب قد صار حالها مثل حال من يسميهم الفقهاء تجار الوجاهة أي أولئك الذين ليس لهم رؤوس أموال يتاجرون بها في الأسواق. ولكن لهم سمعة بأن لهم أموالاً. ولهم وجوه هي رأس المال الذى به يحصلون رؤوس الأموال والأرباح. فليس سراً أن هذه الأحزاب ليس لها برامج أو مشروعات فكرية أو سياسية وهي لا تشعر بالحاجة إلى هكذا متاع . فالزعيم وأقواله ومأثوراته هو الفكرة والمشروع والبرنامج . وهذه بضاعة لم تعد مُزجاة في الأسواق ولا نافقة عند المرتادين والمتبضعين فالأجيال الجديدة التي أبصرت الدنيا وعرفت ما عليه الناس في شتى بقاع العالم تعاظمت تطلعاتها وكبرت أحلامها . ولن تقبل إلا بأفكار واضحة جلية تشير إلى مقاصد وغايات تلائم آمال الناس وأحلامهم ، وتستجيب لتطلعاتهم ولو بعد حين) ولاشك عندى فى صحة ما تمنيته بالأمس ولكنى اليوم أهدأ أنفاسا وأكثر تفاؤلا بالإصلاح ولو لم يذهب كل رموز النظام القديم فما نتمناه عليهم أن تذهب بعض عاداتهم القديمة. نحن اليوم أقرب للتوافق ولكن التوافق على غير خطة وبرنامج سرعان ما تهب عليها سافيات الرياح فيذهب بددا. والخطة هى ترتيب النظام السياسى على أساس مقتضيات الأفكار لا على تطلعات الأشخاص ،وذلك من خلال التوافق على نظام حزبى ديموقراطى يلزم الأحزاب بديموقراطية داخلية ويحاسبها عليها محاسبة جماعية من خلال هيئات متوافق عليها، لا ينتهى فعلها عند التسجيل ولا فض النزاعات . وإنماهى هيئة للتمويل والتدريب والتأهيل القيادى الحزبى وللرقابة القانونية على الديموقراطية الداخلية والنهج التعاقبى للأجيال والنزاهة المالية. أما كيف نتوصل إلى ذلك مهما صعب السبيل إليه فسؤال يُجاب عليه بالإستعانة بأفضل الممارسات من التجارب العالمية وبإجهاد العقول فى البحث عن الملائم لحالنا وظرفنا ووضعنا ومزاجنا. ومما لا شك فيه أننا إن عجزنا فى إغتنام الفرصة لإصلاح النظام السياسى الآن(وليأذن أصحاب الملكية الفكرية للأسم ) فسوف ننتهى إلى إختزال الحوار الى مشاركة آنية فى حكومة وفاق لن يستمر وفاقها أمدا طويلا.
نواصل.

د. أمين حسن عمر