منصور الصويم

منافحة المجد


قبل ثلاثين عاما أو يزيد، كان هذا الرجل – في هيئته الصبيانية وقتها – يجلس متقرفصا على الأرض وسط عدد كبير من الباعة والبائعات، في سوق ملجة الخضار والفواكه، يفرش أمامه على جوال خيش قطع صغيرة من المنقة المحلية، التي ذهب بنفسه إلى جنائن الفواكه التي تحيط بالمدينة، واختارها وهي طازجة سقطت للتو من فروع أشجارها الفارعة.
في هذا الأوان كان هناك عدد كبير من طلاب الصف الثالت المتوسط، يرافقهم مدير مدرستهم وبعض المعلمين، يجولون أنحاء السوق بحماس بحثا عن الصبي بائع المنقة، لم يكونوا يعرفون بالضبط في أي مكان سيجدونه، ولا ماذا يفعل داخل هذا السوق الضاج بالحركة والأصوات، سألوا شخصا ما عنه وأخبرهم إن أرادوه فسيجدونه في هذا السوق دون تقديم أي تفاصيل أخرى. كان الصبي ينادي على منقته حين توقف رهط الطلاب بمديرهم ومعلميهم أمامه. أصيب بالدهشة لمرأى كل زملاء فصله ومعهم أساتذته وكبيرهم المدير. أصيب الطلاب بحالة من الصمت والذهول. سكت المعلمون وأحنوا رؤوسهم. احتضنه المدير باكيا وهو يلوح بالشهادة. كان الأول على الإقليم في امتحانات النقل من المرحلة المتوسطة إلى المرحلة الثانوية.
ولأن المدينة شبه حدودية وتعد ميناء بريا أوليا مهما تعبر منه البضائع إلى الدول المجاورة، كان لموسم المحاصيل أهمية خاصة، ففي هذا الموسم تعيش المدينة الكبرى أحلى أيامها، ينتعش السوق، وتنتفخ الجيوب، ويتحرك دولاب العمل واهبا الجميع فرصة لاقتناص القليل من متع الحياة؛ العتالون وسائقو اللواري، وصغار السماسرة، وخفراء المحاصيل، وموظفو الموازين، وعمال القبانات الموسميون؛ ومن بين هؤلاء الآخرين كان طالب الثانوي، الذي كان صبيا يبيع المنقة، وهو شاب الآن؛ طويل ونحيل وبملامح جادة تفوق عمره الحقيقي بسنوات. ينتهي الدرس فيأخذ كتبه ويغلقها داخل شنطة قماش متواضعة، ويخرج سيرا مسافة ربع ساعة إلى أطراف المدينة، وهنا يجد العربة الكومر بانتظاره حتى تأخذه إلى نقطة التفتيش عند مدخل المدينة الجنوبي. وهناك توجد راكوبة صغيرة، وكرسي خشن مكسور المسند تقبع أمامه طاولة خشنة ومغبرة، وجوارها برميل مليئ بالماء القراح، وإشارة توقيف مصنوعة من جذوع الأشجار عندها تتوقف اللواري السفرية قبل السماح لها بدخول المدينة وسوقها الكبير. في كل ليلٍ، حين يشتد البرد يلف الشاب النحيل على جسده بطانية رسمية مهترئة، وينتظر قلقا وجائعا إلى أن ينتهي الخفير من قلي الفول السوداني على نار الرمل ليتناولوا العشاء.. في الصباح يهبط الشاب الطالب من العربة الكومر عند نقطة على بعد ربع ساعة من مدرسته، راجلا ونشطا يمضي إلى هناك.
هناك حكايات أخرى تخص هذا الرجل، الذي يتحرك بتواضع عجيب الآن بين شركاته وممتلكاته؛ الرجل الذي حقق سمعة وطنية لبلده في بلاد الاغتراب، له حكايات أخرى تكمل قصة كفاح الصبي بائع المنقة ومنافحة الشاب النحيل كاتب القبانات.

اليوم التالي