اقتصاد وأعمال

تدهور زراعة القمح يهدد بفقدان رغيف الخبر!

يتدهور إنتاج القمح في الدول العربية بسبب سياسات تهمّش المنتج الزراعي وتدمّر الأراضي الخصبة. ما تبعات هذه السياسات، وكي يمكن سد ولو جزء من الفجوة الغذائية العربية التي أضحت قنبلة موقوتة بسبب الزيادة السكانية المخيفة؟

القمح يساوي الخبز، والخبز لا يغيب عن أي وجبة غذائية في العالم العربي. وعليه لا عجب أن يطلق عليه في مصر “عيش الناس” للتدليل على أنه لا حياة بدونه. هذه الأهمية تجعل منه سلعة حيوية وإستراتيجية يعني غيابها من السوق أو رفع أسعارها حدوث انتفاضات شعبية تهدد الاستقرار وتجلب الفوضى كما حصل في تونس والمغرب ومصر والجزائر في ثمانينات القرن الماضي وفترات لاحقة إثر ما سمي بانتفاضات أو ثورات الخبز. وفي سياق متصل يُستخدم القمح أيضا كوسيلة أو كسلاح شديد الفعالية للضغط السياسي من قبل الدول التي تصدره على الدول التي تستورده إذا كان من وراء ذلك تحقيق مصالح معينة. ويعود استخدام هذه الوسيلة إلى عصور غابرة، وخلال العقود القريبة برز استخدام هذه الوسيلة على سبيل المثال من قبل الدول الغربية ضد الاتحاد السوفيتي سابقا بعد غزوه لأفغانستان. كما استخدمته الولايات المتحدة والغرب ضد ليبيا إبان حكم القذافي وضد مصر إبان حكم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.

تدهور مخيف

يقول المرء في بلاد الشام عندما يريد التحسر على شيء مضت أيامه: “رحم الله أيام زمان عندما كان ..”. وإذا ما تعلق الأمر بالحالة التي وصلت إليها زراعة القمح في العالم العربي هذه الأيام يمكن القول رحم الله أيام زمان عندما كانت سهول دجلة والفرات ووادي النيل حتى خمسينات القرن الماضي تصدر الأقماح إلى مختلف أصقاع المعمورة. أما اليوم فإن جميع الدول العربية مضطرة لاستيراد الحبوب وفي مقدمتها القمح بنسب تتراوح بين 40 و100 بالمائة. وجاء في دراسة أعدتها مؤخرا جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية عن الفجوة الغذائية في دول مجلس التعاون الخليجي أن هذه الدول تدفع سنويا ما يزيد على 17 مليار دولار لاستيراد الحبوب وفي مقدمتها الأقماح.

وفي مصر والجزائر وصلت قيمة الفاتورة السنوية لاستيراد القمح إلى حوالي 6 مليارات دولار موزعة بالمناصفة تقريبا خلال السنوات القليلة الماضية. أما فاتورة كل من العراق والمغرب فتتراوح بين 0.7 و0.9 مليار دولار، في حين تستورد تونس قمحا بحوالي ربع مليون دولار سنويا. الجدير ذكره أن نسبة الأمن الغذائي على صعيد القمح في الدول العربية كانت جيدة بالمقاييس العالمية في خمسينات وستينات القرن الماضي، في حين أنها تراجعت إلى أقل من 40 بالمائة حسب معطيات منظمة الزراعة العالمية. وفي حال استمر هذه التدهور بموازاة تدهور أسعار النفط والمواد الأولية وعوائد الصادرات الزراعية هناك مخاطر متزايدة من عجز عدد من الدول العربية عن توفير الأموال اللازمة لاستيراد احتياجاتها من القمح والدقيق.

ركزت معظم الدول العربية منذ استقلالها على سياسات اقتصادية تعطي الأولوية لتصدير المواد الأولية وبناء صناعات تحويلية تعتمد حتى في موادها الأولية والوسيطة للإنتاج على الاستيراد الكامل من الخارج والتبعية له بدلا من اعتمادها أيضا على المدخلات المحلية. أما الإنتاج الزراعي وخاصة من القمح فلم يحظ بدعم ملحوظ في هذه السياسات. وقد قاد ذلك إلى تدهور الإنتاج الذي تم التعويض عنه عن طريق الاستيراد بأموال النفط وعوائد المواد الأولية الأخرى.

وبدلا من إتباع سياسات دعم حكومي للمزارعين أو المنتجين كما تفعل دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة، تم توجيه هذا الدعم للاستهلاك بشكل عشوائي شمل الفقير والغني وأدى إلى مزيد من التدهور في الإنتاج الزراعي وتراجع المردودية على الصعيد المحلي. وهذا ما دفع ملايين المزارعين لترك أراضيهم والهجرة إلى الخارج أو إلى الأحياء العشوائية حول المدن الكبيرة بحثا عن حياة أفضل هناك. وزاد الطين بله القضم المريع للأراضي الزراعية الخصبة وتخريبها عن طريق التلوث وزحف الأبنية العشوئية أو الأحياء السكنية الجديدة، لاسيما حول المدن الكبيرة كالقاهرة وبيروت ودمشق.

النجاح الجزئي لا يكفي

في محاولة منها لسد جزء من الفجوة الغذائية المتزايدة توجهت دول عربية وفي مقدمتها سوريا والسعودية منذ تسعينات القرن الماضي ومصر والجزائر مؤخرا إلى دعم إنتاج القمح وشراءه من المزارع بأسعار تشجيعية تزيد عن مثيلتها في السوق الدولية. وإذا كان من المبكر الحكم على التجربتين المصرية والجزائرية كونهما حديثتا العهد، فإن التجربتين الأخريين حققتا نجاحات واضحة على أكثر من صعيد. ففي السعودية تم تحقيق الاكتفاء الذاتي إلى أن توقفت الحكومة عن شراءه بأسعار تشجيعية. وفي سوريا تمكنت البلاد حتى عام 2011 من تحقيق فوائض تزايد عن حاجة السوق. غير أن هذا النجاح بدأ بالتراجع مع التراجع الخطير في المخزون المائي الجوفي والحيوي الذي تم استنزافه في أكثر من منطقة وخاصة في محافظة الحسكة التي تقع شرق البلاد. وساهم في ذلك بشكل أساسي عدم تعميم طرق الري الحديثة والجفاف الذي تسببه قلة الأمطار، إضافة إلى قيام تركيا ببناء عدة سدود على نهري دجلة والفرات مما أضعف منسوب تدفق مياههما عبر الأراضي السورية والعراقية. كما أن الإنتاج السوري من القمح شهد منذ عام 2011 تدهورا لا مثيل له منذ استقلال سوريا بسبب الحرب المستمرة في البلاد منذ صيف العام المذكور.

تجارب يمكن الاستفادة منها

يؤدي النمو السكاني المخيف في الدول العربية إلى زيادة استهلاك الأغذية وفي مقدمتها الخبز. ومن هنا فإن الطلب على القمح يزداد باضطراد في جميع الدول العربية التي تعاني من تراجع رقعة الأراضي الزراعية القليلة أصلا باستثناء السودان. وإذا كان سد هذا الطلب مستحيل عن طريق الإنتاج المحلي في ظل الظروف الحالية التي تهيمن عليها إما الاضطرابات السياسية أو الحروب، فإنه بالإمكان التخفيف منها عن طريق إتباع سياسات زراعية محلية ومستدامة توقف التعديات على الأراضي الزراعية وتدعم المنتج الزراعي بأسعار مشجعة وتساعده على استخدام التقنيات الحديثة في الري وتطوير أنواع البذار المقاومة للجفاف. وهنا يمكن الاستفادة من خبرات دول الاتحاد الأوروبي في مجال دعم إنتاج القمح والحليب. وفي مجال تطوير البذار المقاومة للجفاف يمكن البناء على ما حققته تجارب متميزة مثل تجربة المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة/ ايكاردا والذي يتخذ من سوريا مقرا له. فقد تمكن هذا المركز من تطوير أنواع من الحبوب مقاومة للجفاف وذات إنتاجية عالية. وفي كل الأحوال لابد من إعادة إحياء أفكار إقامة مشاريع زراعية مشتركة في دول كالسودان والتي كان مقدرا لها أن تصبح سلة الغذاء العربي، لكن مستوى العجز ازداد بها بسبب الزيادة في المعدلات السكانية على غرار عدد من الدول العربية. وهي معدلات تفوق عن مثيلتها في أي منطقة أخرى في العالم.

DW