الطيب مصطفى

الغنوشي، رغم عظمته، هل نأخذ ديننا منه؟! (2)


في مقالي بالأمس قدمت مقاربةً فكريةً حاولت من خلالها التماس العذر للشيخ راشد الغنوشي في تماهيه مع العلمانيين، مستدعياً مقارنة بين وضع حركة النهضة في تونس وحالة الدعوة الإسلامية عند انطلاقها لأول مرة، وقد أُمِر المؤمنون، وقتها، بأن يكفوا أيديهم عن القتال ويقيموا الصلاة تاركين بيت الله الحرام للات والعزى ولمئات الأصنام المنصوبة داخله مدنِّسةً لمقامه الكريم.

ربما كان ذلك التدرُّج المدهش في مسيرة الدعوة الإسلامية من حالة الاستضعاف والاضطهاد حتى بلوغ عافيتها بالنصر المُبين مما جعل الغنوشي والنهضة يدفعان بطرحهما العلماني مراعاة للواقع التونسي وما يحيط به من تحديات داخلية وخارجية حيث قال الرجل: (ليس من مهام الدَّولة فرض نمط معيَّن من الحياة، فتتدخَّل فـي ملابس الناس، وما يأكلون، وما يشـربون، وما يعتقدون، وفـي مسكنهم.. وظيفة الدَّولة أن توفِّر إطاراً عامَّاً للمجتمع يتعايش الناس فيه، ويُبدعون، ويتعاونون، ويتدافعون، حتى يتبلور اﻹسلام لديهم كرأي عامٍّ وثقافة عامَّة. أما الإسلام الذي تفرضه الدَّولة بأدوات القمع فإن الناس يتفلتون منه.. مَن يتديَّن خوفاً مِن الدَّولة منافق، ونحن ﻻ نريد أن نحوِّل التوانسة إلـى منافقين).

ما عبَّر عنه الغنوشي من خلال ذلك الطرح العلماني الهزيل يُعبِّر عن رؤية واقعية لتونس البعيدة بمجتمعها المتفرنس، عن المثال الإسلامي ثم إنه ربما كان يحاول أن يُجنِّب حركة النهضة تلك المآلات البائسة التي انزلقت إليها حركات إسلامية أكثر عراقةً وقوةً في دول أخرى مثل مصر والسودان على أن ما أُعيبه على رؤية الغنوشي أن صاحبها جعلها مطلقة ولم يقيدها بظرف تونس المحلي، الأمر الذي جعل بني علمان في شتى أنحاء العالم يلتقطونها بفرح غامر ويحتفون بها باعتبارها رؤية فكرية نهائية للإسلام يدعو الغنوشي إلى تطبيقها في كل مكان وزمان مما ساق الناس إلى الاعتقاد أن الغنوشي يتبنى العلمانية نظاماً للحكم، بعيداً عن الإسلام وشريعته وإذا كان بنو علمان قد طاروا فرحاً بذلك الموقف باعتباره شهادة شاهد من أهلها وإعلان استسلام من أحد دهاقنة ما يسمونه بـ (الإسلام السياسي) بل ومن رجل على رأس حركة كانت تصف نفسها بالإسلامية أحدثت مراجعات فكرية جذرية في طرحها القديم أعلنت من خلالها على رؤوس الأشهاد التخلي عما كانت تدعو إليه وتنافح عنه على مدى عقود من الزمان فإني سأحاول في هذا المقال الرد على ما طرحه الغنوشي من فقه (مستسلم) للواقع التونسي لأرد الأمر إلى المثال الإسلامي البعيد عن المشهد التونسي بتعقيداته المعلومة.

صحيح أن الغنوشي يخشى من تحويل المجتمع إلى منافقين ولذلك اعتمد نظرية عدم تدخل الدولة في الحض على نمط معين من التدين ولكن بربكم بأي حق يستدرك الغنوشي على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن الكريم ليجرِّم فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لو كانت قد أسهمت بقدر ما في ظاهرة النفاق في مجتمع المدينة الذي يعتبر الأنموذج والمثال الذي تشرئب إليه أعناق المؤمنين على امتداد التاريخ؟ ما عسى الغنوشي أن يقول في معاقبة المسلم المرتكب لما يستوجب حد الحرابة أو المسلم الشارب للخمر أو المسلم الزاني الذي ينبغي أن يشهد (عذابه) طائفة من المؤمنين؟ من غير الدولة، التي أرادها الغنوشي محايدةً، يضطلع بذلك الدور الذي من شأنه أن يدفع الناس إلى التَّخفِّي مما يفعلون نفاقاً وخوفاً من سطوة الدولة والقانون وهي تطلب من المسلم سلوكاً معيناً إذا تجاوزه تعاقبه بل وتزجر المجتمع وتردعه من تكرار اقتراف ذلك الفعل من خلال التشهير بالجرم أمام الملأ؟، كيف يتجرأ الغنوشي ويأتي بإسلام جديد يستنكر توقيع العقوبات التي أمر الله بها في قرآنه ويهاجم الإسلام الذي ظلَّت الأمة تتعبد به منذ نشأته وإلى يوم الدين ويصفه بـ (الإسلام الذي تفرضه الدولة بأدوات القمع)؟ أي أن إسلام قطع يد السارق وجلد الزاني مثلاً، (قمع) يجعل الناس يتفلتون من الإسلام !!! وهل تفلتت الأمة، أيها الرجل، طوال تاريخها من الإسلام بسبب نص قرآنه على تلك العقوبات أم أنها تفلتت من المبدلين المنهزمين المتحرجين مما قضى الله به ورسوله ممن ظلوا يتوارون خجلاً ويرتجفون فرقاً من الهجوم الذي يشنه أعداء الإسلام؟

لقد كان رأس النفاق عبد الله بن أُبي أستاذ الغنوشي، (يتديَّن خوفاً من الدولة) بل ويبني مسجداً ضراراً وليس اقتناعاً واعتقاداً وبالرغم من ذلك لم يتخلَّ الله ورسوله عن (فرض نمط معين من الحياة) يتدخل في ما يحل للمسلمين أكله وما يحرم عليهم استرضاءً لبني علمان ومن لفَّ لفَّهُم ممن يتهافتون عليهم ويسارعون فيهم.

نواصل

صحيفة الصيحة