“البلدوزر” عندما عين حميدة وزيرا للصحة بولاية الخرطوم تساءل كثيرون عن كيفية موازنته بين منصبه الجديد واستثماراته الخاصة في ذات القطاع.. لكن اليوم وبعد مرور 5 سنوات لا داعي لتكرار السؤال “الأخلاقي”
علق رئيس لجنة الأطباء السابق أحمد الأبوابي قبل 5 سنوات على اختيار والي الخرطوم السابق عبد الرحمن الخضر لمأمون حميدة وزيراً للصحة بقوله إن الثاني سيجد نفسه أمام امتحان أخلاقي حول كيفية توفيقه بين وظيفته العامة كوزير للصحة ومصالحه كمستثمر في ذات المجال؟ لا يعدم صاحب مستشفى الزيتونة وجامعة العلوم الطبية الإجابة على سؤال أخلاقياته في التعاطي مع الشأن العام فقبل أن يستوي على كرسي الوزارة كانت الصحف تحمل ما يفيد بأن الوزير تبرع بمرتبه الرسمي لصالح الأطفال فاقدي السند في دار المايقوما، بدأ بعدها “البلدوزر” تدشين سياسته المتعلقة بنقل الخدمات الصحية من المركز إلى الأطراف والتي اعتبرها البعض مجرد “تفكيك” لمؤسسات البلاد الصحية.. إشارة واحدة من هؤلاء نحو مستشفى الخرطوم تبدو كافية للتأكيد على صحة فرضيتهم لا سيما وأن خلف ظهورهم “الزيتونة”، كما هي في مكانها وسط الخرطوم.
عقب تداعيات إضراب الأطباء السودانيين في شهر أكتوبر الفائت خرج حميدة على وسائل الإعلام قائلاً: “الإضراب سياسي وسأغادر الوزارة بعد شهرين” كان القيادي بالمؤتمر الوطني يلمح ساعتها لما يمكن أن يجرى من تعديلات عقب انتهاء أجل الحوار الوطني وبالتالي تشكيل حكومة مركزية جديدة، تغيير بالطبع سيشمل الولايات وعلى رأسها الخرطوم.. تصريح مأمون حميدة ساعتها كان المحرك الرئيس لتداعيات ما بعد الاعتصام مقرونة بما يجري في أضابير الصحة وسط إحساس جماعي بتراجع الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين. كثيرون يحملون وزر التراجع في الخدمات الصحية لاختلاط الخدمة بالاستثمارات وأن مأمون هو السبب الرئيس في هذا الأمر.
عندما أعلن حميدة أنه سيمضي بعد شهرين خرج البعض مرددا (شهرين ليه ما تمشي هسة؟) يكتب على جمال أمين قطاع الشباب في الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل على صفحته الشخصية بموقع الفيسبوك يوم الخميس: “السيد/ مأمون حميدة حبيت أذكرك إنو الليلة قبل تمشي البيت تقدم استقالتك.. لأنو بكرة جمعة.. وبعدو سبت مافي شغل الشهرين بتنتهي يوم السبت ده طبعا كان لسه ما نطيت” لم تكن تغريدة علي جمال إلا امتداداً لتغريدات كثيرة تعيد تصريح الوزير وتعيد تذكيره بأنه آن أوان المغادرة فلم تعد مستشفيات العاصمة تحتمل المزيد من المشاكل.
الأسبوع الفائت وعقب تفاقم أزمة الدواء بعد أن أصدرت الحكومة قراراتها الخاصة بتحرير دولارها كان وزير الصحة يهبط برفقة معاونيه في مباني هيئة الإمدادات الطبية بالخرطوم بغية الاطمئنان على الاحتياطي الموجود من الأدوية المنقذة للحياة. المفارقة أن الرجل هبط هناك مدعوماً بصفة نائب الوالي برفقة صفته وزيرا للصحة في العاصمة وهو ما يعني أن الرجل ما زال متمسكاً بالبقاء في منصبه.
يبدو المدير الأسبق لجامعة الخرطوم ومقدم البرنامج الصحي في قناة السودان القومية رجلاً يجيد الوقوف في وجه العواصف ويصنعها في الوقت ذاته، فطوال سنوات بقائه في منصبه كوزير للصحة بدا في مرمى نيران الانتقاد ولا تكاد إصدارة يومية تخرج دون أن ينتاشه فيها سهم في وقت لم يعدم فيه الرجل الأدوات التي يدافع بها عن نفسه في مواجهة ما يسميه الاستهداف، فإمبراطورية حميدة لم تكن لتنحصر فقط في ما يتعلق بالمجال الطبي فللرجل إمبراطوريته الإعلامية، فبالإضافة للإذاعة الطبية المملوكة لجامعته دخل حميدة أيضا في تجربة امتلاك صحيفة يومية قبل أن تتوقف سفينة (التغيير) في محطة مطالبة العاملين بها باستحقاقاتهم لدى الناشر الوزير.
بحسب تصريحات الرجل في أكتوبر فإنه ينبغي ألا يداوم الرجل في مكتبه في الوزارة لكن الظروف المحيطة الآن تقول بغير ذلك فالرجل سيعاود إطلالته المعتادة من مكتبه وسيصرح للصحف تحت ذات الخلفية فما تزال الحكومة الخرطومية هي الحكومة الخرطومية ولم تصل بعد إلى تنفيذ مخرجات الحوار.
في تصريحات سابقة كانت وزيرة الدولة بالصحة سمية أكد تؤكد على أن السياسة الصحية المعلنة هي التي يتم تنفيذها وهو ما يعني استمرار عرابها في منصبه. لم تنس أيضا التأكيد على رضاء الوزارة المركزية عن أداء الوزارة الولائية، لم تكن سمية وحدها هي من ترفع رايات الرضا عن أداء حميدة ففي أوقات سابقة واثناء مناقشة مجلس تشريعي الخرطوم لأداء وزارة الصحة قال أحد النواب إنه شاهد في المنام الرسول عليه الصلاة والسلام يوصيه بضرورة الاستمساك بحميدة ودعمه لأداء وظيفته في تحقيق تطلعات الناس الصحية، بالنسبة له فإن حميدة يبدو وكأنه هبة السماء لأهل الأرض في السودان.
لكن في خضم إضرابها الشهير كانت لجنة الأطباء تضع قائمة مطالبها لتحسين الخدمة الصحية في البلاد وتطالب بتحسين أوضاع الأطباء وبتحسين البئية وبضرورة صيانة مستشفيات الحوادث وتوفير الأجهزة الطبية المساعدة لأداء الطبيب لدوره وتنفي اللجنة على لسان الدكتور حسام البدوي الناطق الرسمي باسمها أنها تضع إقالة وزير الصحة بالخرطوم من ضمن مطالبها.. الأمر هنا يبدو أمرا متعلقا بتحسين أداء المؤسسات بعيداً عن الشخصانية فالوزير لا يعدو كونه إحدى أدوات تنفيذ السياسة الصحية المعلنة، لا يهم من يطبقها بقدر ما يهم تعديلها بشكل كامل.
لكن على عكس رؤية اللجنة فإن ثمة من يرى أن الإشكاليات في القطاع الصحي تتطلب إيجاد تعديلات جوهرية، هذه التعديلات تتطلب بالضرورة ذهاب المسؤولين عن إدارتها، بل أنه داخل الحزب يدور الهمس بضرورة إبعاد حميدة من منصبه لأن سياساته تزيد من حدة الحنق الشعبي على أداء الحكومة خصوصاً في ظل ارتفاع نبرة المقارنة بين المؤسسات الخاصة وبين المستشفيات العمومية.
يقول أحد المغردين وهو يستعيد تصريح حميدة مصحوباً بالصورة: “لا تحلموا بعالم سعيد” ويكمل: “لن يغادر منصبه وإن بدا قانعاً من الاستمرارية” يربط المغرد بين تلويح حميدة بالمغادرة وبين إعلانها في وقت سابق من قبل وزيرة التربية والتعليم سعاد عبدالرازق عقب تداعيات مدرسة الريان حين قالت الوزيرة إنها ستتقدم باستقالتها عقب إعلان النتيجة، والنتيجة الآن هي أن سعاد لا تزال في كرسيها. يردف الشاب: “ما عندنا وزير بستقيل”.
يعود البعض لمتابعة نشاط حميدة منذ جلوسه على كرسي الوزارة ومجمل المشاكل التي نشبت والاعتراضات على طريقة إدارته من محسوبين على السلطة منذ حادثة مستشفى الزيتونة الشهيرة، حادثة الحاجة الزينة مروراً بالمشاكل في إدارة مؤسسات تابعة لوزارته وتوظيفها لخدمة مصالحه، مؤكد أن هؤلاء لم ولن يملوا الاستشهاد بزلزال المراجع العام في ما يتعلق بالمستشفى الأكاديمي.. كل هذه المشكلات لم تحرك في الوزير شعرة الرغبة في المغادرة بل زادت من تمسكه بالمنصب ودون أن يتزحزح.
البلدوزر لن يغادر منصبه كوزير للصحة في ولاية الخرطوم فالتعديلات الوزارية ما تزال في رحم الغيب وهو ما يجعل من التلويح بفترة الشهرين مثل الإسفنج الذي يمتص مياه العواصف التي اشتدت عقب إعلان إضراب الأطباء الموصوف بأنه سياسي من قبل الوزير، وربما السياسة نفسها هي التي تجعله يعود مرة أخرى لمنصبه حتى لا يظن البعض أن الحزب الحاكم انحنى لعاصفة الاحتجاجات المتعلقة بالأطباء ورفضهم للسياسات المعلنة أو لطريقة تنفيذها على أرض الواقع.
عدم مغادرة مأمون لمنصبه لا يبدو شراً مطلقاً، فمع بقائه سيستمر مشروع تحويل مرتبه إلى صالح الأطفال فاقدي السند بشرط ألا يسأل آخر عن مصير الأطفال الذين سيصلون إلى المستشفيات العامة ويعودون دون الحصول على العلاج، هذا إن وجدوا المستشفى لا يزال في مكانه القديم.
الخرطوم – الزين عثمان
صحيفة اليوم التالي