تحقيقات وتقارير

المسؤولون بعد مغادرة المنصب.. البكاء على اللبن المسكوب

يظل المسؤول أثناء الخدمة حائط صد منيع في مواجهة كل نقد للحكومة، والمدافع الأول عن كل ساسياتها ودائماً ما يسوغ المبررات إذا ما وجد إخفاقاً هنا أو هناك، ولكن الحالة تتغير تماماً عندما يتم الاستغناء عنه أو إعفاؤه عن المنصب، فيتحول مباشرة إلى موقع الهجوم ويوجه سهام النقد في أقصى درجاته ..

والأمثلة كثيرة على ذلك فما تزال الذاكرة تحتفظ بالهجوم الذي شنه وزير المالية السابق علي محمود على السياسات الاقتصادية بالبلاد، وكشف عن فساد ممنهج في سعر الصرف بالرغم من أنه كان المهندس الأول لتلك السياسات، ثم أتى من بعده رئيس البرلمان السابق د. الفاتح عز الدين الذي هاجم الأوضاع الاقتصادية بالبلاد ووصفها بالحالة الاستثنائية وتستدعي (الكوراك والثورة). وبالأمس القريب لحق والي الخرطوم السابق د.عبد الرحمن الحضر بقائمة المنتقدين والمهاجمين لسياسات حكومة الإنقاذ، حيث قال خلال ورشة لتقييم الحكم اللا مركزي، إن الإنقاذ أفرغت المحليات من الكوادر المؤهلة عدا شريحة المعلمين، ووصف المحليات بشكلها الحالي بالقبيحة، داعياً لمعاجة الأمر، وأضاف أن العاملين بالمحليات أصحاب قدرات ضعيفة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا لم يسعَ هؤلاء لمعالجة الأخطاء التي يشكون منها أثناء وجودهم بالخدمة وما الذي كان يمنعهم من الاعتراف بها قبل مغادرة مناصبهم؟

*عيب سياسي
المحلل السياسي بروفيسور عبده مختار أكد في رده على سؤال (آخر لحظة ) أن الذين يقومون بمثل هذه الأفعال يمارسون السياسة بغير أخلاق ولا مبادئ، بل من أجل السلطة والمصلحة، وقال مثل هذه المواقف لا تشبه النظام الإسلامي ووصفها بالسلوك المشين والمعيب لمسؤولين في الحركة الإسلامية ويفترض فيهم أن يكونوا غدوة للجميع، وأضاف هؤلاء ليس لهم موقف وطني واتهمهم بعدم الشجاعة والجرءة، وتساءل لماذا لم يأتِ هذا النقد أثناء وجودهم في السلطة حتى يتم التقويم والإصلاح.

*طبيعة بشرية
أما أستاذ العلوم السياسية بجامعة أم درمان الإسلامية د.راشد التيجاني فقد أرجع الأمر إلى أن طبيعة المناصب في الدول النامية فيها امتيازات كثيرة على خلاف الدول المتقدمة التي يكون فيها المنصب مثله مثل الوظائف الأخرى، ولذلك يصعب على الشخص فقدان تلك الامتيازات بين يوم وليلة، ومن الطبيعي أن يقابل ذلك الأمر بقسوة ووسائل دفاعية والبحث عن أخطاء الآخرين، ويمضي راشد بالقول: السلطة لها نشوتها ويصعب على الإنسان الابتعاد عنها وهذه طبيعة إنسانية ذكرها الله في القرآن بقوله تعالى:
‏ (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء .. ), ولا أحد يتنازل عن السلطة وحده.

*شحنات غضب
استشاري الطب النفسي والعصبي بروفيسور علي بلدو قال إن السلطة بالبلاد أشبه بالمخدرات، تنطبق عليها كل أنواع مواصفات التخدير المعروفة مثل الشعور بعدم الراحة من عدم الحصول عليها، إضافة إلى الشحتفة وحراق الروح عند الإقصاء من المناصب، بجانب التنافس المحموم بكل الطرق السلمية وغير السلمية، فضلاً عن الشعور بعدم الراحة والانسحابية السلطوية التي ظلت تطال الكثير من المسؤولين بعد مغادرة المنصب، وأضاف بلدو في تحليله النفسي لهذا السلوك أن التخلي عن السلطة يؤدي إلى صعوبات في التأقلم والتكيف مع الظروف مما يتسبب في صعوبة التعامل مع الغير والشعور بالدونية والتهميش وزيادة في الغضب والانفعال والتوتر وعدم الرغبة في الاستمرار في الوضع الحالي مما يولد شحنات نفسية غاضبة أو إفشاء أسرار مهمة أو التنكر لرفقاء السلطة والانضمام لتنظيمات معارضة، وأشار بلدو إلى أن هناك مراحل يمر بها المسؤول عقب مغادرته المنصب تبدأ بمرحلة الإنكار وعدم قبول الإقصاء والرغبة في التمسك، تليها مرحلة الشعور باليأس والإحباط كما أنه يرى أن الإدمان السلطوي لدى كثير من المسؤولين يصل إلى مرحلة تقبل مناصب أقل أو الدخول في مشاكل أكاديمية واجتماعية وقانونية بسبب السلطة، وهذا ما يمكن إدراجه تحت خصائص الإدمان الطبيعي.

تقرير:ثناء عابدين
صحيفة آخر لحظة