مرضى سوء التغذية والإسهالات الأكثر تردداً مستشفى البلك للأطفال.. فاقد الشيء لا يعطيه
لم يدر بخلدي أن أجد مستشفي البلك للأطفال بمدينة الثورة بأم درمان يعاني جملة من المشكلات والعقبات التي ظلت تمثل هاجساً مؤرقًا لطاقمه الطبي والإداري، بالمشفى الحكومي الذي يعود عمره إلى أكثر من ثلاثة عقود، يعاني من أزمة مستفحلة في الصرف الصحي، ويوجه مبالغ طائلة شهرياً لصيانة الأجهزة الطبية نتيجة لأعطالها المتكررة، ليس لعدم جودتها ولكن لتذبذب التيار الكهربائي، كما أنه يعاني نزيفاً دائماً ونقصاً حادًا في الكوادر الوسيطة، ورغم هذه العقبات فإن المستشفى يقدم خدماته الطبية لما يربو على الستة آلاف مريض شهرياً، منهم المصابون بسوء التغذية وهو مرض لم أتوقع وجوده بالعاصمة الوطنية.
حال يغني عن السؤال
بعد أن ترجلت عن الركشة التي أقلتني من الطريق الرئيس للقورة “بالنص”، لم أستطيع أن أتبين المستشفى، وذلك للازدحام الكبير في المنطقة التي يقع فيها وهي الثورة الحارة الرابعة، حيث يحده من الشرق سوق ضخم يرتاده سكان الثورات، نعم، لم احتاج للسؤال عن موقعه، ولكن اللافتة الموضوعة في واجهته الجنوبية أوضحت لي واقع المستشفى بالداخل، وذلك لأن الشمس فعلت فعلتها فيها حتى اختفت حروفها.
بعد أن دلفت إلى الداخل فإن النظرة الأولى توضح أن هذا مبنى المستشفى موغل في القدم رغم متانته البائنة، فالجدران اختفى طلاؤها ومساحات واسعة من فنائه غير مرصوفة، فالتراب يتوزع في معظم المساحات الخارجية. دخلت الحوادث فوجدت عدداً مقدراً من المرضى الأطفال برفقة أهلهم، سألت مارية وهي امرأة في العقد الرابع من عمرها عن الخدمة التي يقدمها لهم المشفى المتخصص، لم تسألني عن هويتي، وأشارت إلى أنه جيد، وأن طاقمه الطبي يتعامل معهم باحترام واجتهاد، إلا أنها شكت من عدم توفر بعض التحاليل في معمله، وقالت: حتى التحاليل التي يمكن إجراؤها في معمل المستشفى، فإن نتيجتها تتأخر وأحيانا تختلف عن تلك التي يتم إجراؤها خارج المستشفى، تدخلت في الحديث والدة طفل يدعى محمد وقالت: للأمانة التعامل جيد، لكن الشكل العام للمستشفى غير مرضٍ، فقبل أيام كانت النفايات متراكمة حتى أمام العنابر وعملية النظافة ليست في المستوى المطلوب، ولكن حدث تغيير خلال الأيام الماضية.
العنابر والتدخل العاجل
أثناء تجوالي، لاحظت وجود عربة شفط، وحينما استفسرت عنها علمت أنها من المألوفات في المستشفى، حيث تعمل على تفريغ آبار الصرف الصحي من المياه بواقع مرتين في اليوم، وكذلك لاحظت أن شبكة المياه يجري تجديدها وعلمت أيضًا أن يد الإصلاح لم تطلها منذ إنشاء المستشفى قبل ثلاثين عاماً، قلت أمر جيد أن تهتم الحكومة بتأهيلها، ولكن عاملاً منهمكاً في أداء عمله وكأنه قد قرأ ما يدور في خلدي، أشار إلى أن رجل بر وإحسان رفض الكشف عن هويته، هو من تحمل كافة تكاليف تركيب شبكة المياه الجديدة، قلت له”الحمد لله الدنيا لسه بخير”، تجولت في العنابر، وكان الجناح الخاص وجهتي الأولى، وهو مشيد على طراز حديث ويبدو أن العمل انتهى فيه قبل فترة محدودة، وتوجد فيه عشر غرف مجهزة بأسرَّة وأجهزة حديثة، إذن هذا المبنى الأنيق لمن استطاع إليه سبيلاً، ولكن كيف هي عنابر غمار الناس ومحدودي الدخل المحدود، تجولت فيها، بعض منها خضع لعمليات تأهيل جعلته جيداً، وأخرى لا يمكن أن يبقى فيها إلا مجبوراً لأنها لا تبدو في حالة جيدة، وكالعادة فإن الملمح الموجود في معظم مستشفيات السودان وجدته في البلك، مجموعة من النسوة ينهمكن في غسيل الملابس وتعليقها على سور حديقة، وأستطيع الجزم أن هذه العادة السودانية لا توجد في دولة أخرى، قد نجد لهن العذر ربما إقامتهن طويلة، ولكن في النهاية فإن الحقيقة تؤكد أنه مظهر غير حضاري.
أثناء تجوالي في العنابر توقفت في عنبر مخصص للأطفال المصابين بسوء التغذية، فأعدت البصر كرّتين، وتساءلت هل أنا في القضارف أم جنوب درافور والجزيرة، لأن هذا المرض الناتج عن الفقر والجوع ينتشر في الولايات خاصة الشرقية والغربية، ولكن أن يتفشى في العاصمة فهذا مؤشر خطير يوضح حجم الأزمة التي يرزح تحت وطأتها من يقطنون بلداً تلقب بسلة غذاء العالم.
من مركز إلى مستشفى
المشفى بدأ عمله بوصفه مركزاً صحياً، وذلك في عقد السبعينات، وقد أنشأه الفقيد البلك، ثم تطور إلى مستشفى للنساء والتوليد والأطفال، ولكن في بداية التسعينيات تحول إلى مستشفى تخصصي للأطفال، وكشف عن أنه يضم عدداً من الأقسام منها الحوادث الخارجية التي تسع 35 سريراً والعنابر الداخلية التي تسع 125 سريراً وأربعة أسرة لحضانات الأطفال، وأضاف معرّفاً بالمستشفى: وتوجد ست وحدات طبية يشرف عليها عشرة اختصاصيين، ويوجد 19 نائب اختصاصي، و48 طبيب امتياز، ولا يوجد أطباء عموميون، وبالمستشفى معمل طوارئ وآخر مركزي، بالإضافة إلى قسم الأشعة والصيدلية، علاوة على المركز التعليمي المخصص لمناقشة الحالات المرضية يومياً.
تردّد عالٍ
بعد ذلك توجهت صوب مكتب الإدارة، ولحسن حظي فقد وجدت المدير الطبي العام والأمين العام في مكتب واحد، بعد أن أطلعتهما على تفاصيل جولتي، رحبا كثيرًا لبحث الصحافة الأوضاع الصحية بالمستشفيات.
يقول المدير الطبي العام لمستشفى البلك الدكتور حسام حسن متوكل، إن نسبة التردد على المستشفي تعتبر عالية وأنه يقدم خدماته لمواطني شمال أم درمان، وكشف أن الدخولات لا تقل في اليوم عن سبعين حالة، بخلاف الحوادث، مؤكداً أن عن كل الأدوية والخدمة الصحية تقدم مجاناً خاصة في الطوارئ، لافتاً إلى أن المستشفى اكتسب سمعة جيدة جعلته وجهة مفضلة للمرضى من مختلف أنحاء أم درمان، موضحاً أن كافة الأقسام تضم كوادر جيدة، وقال إن الجناح الخاص سعته تبلغ أحد عشر سريراً.
عجز في التمريض
ويمضي المدير الطبي العام الدكتور حسام حسن في حديثه كاشفاً عن وجود عجز كبير في التمريض، وأضاف: حسب الربط السريري يفترض وجود مائة وسبعين ممرضاً، والموجودون حالياً لا يتجاوز عددهم الخمسين، وقال إن العنبر به خمسون سريراً وقصاده ممرضان فقط، وقال: يوجد نقص أيضاً في تقنيي الأشعة، ولفت إلى وجود نقص أيضاً في فنيي التخدير لقلة عددهم ، ويرى أن محضر المعمل أيضًا وظيفته فارغة، ولفت إلى أن أجهزة الشوارد في الجسم ووظائف الكلى والدم الأبيض تتعرض للأعطال وذلك لأنها قديمة الصنع، وقال إنهم يخضعونها كثيراً للصيانة، وأن إمكانيات المستشفى المادية لا تساعدهم على شراء أجهزة جديدة، وقال إنهم بعلاقات البروفسير الإدريسي بجامعة التقانة يسعون إلى إنشاء قسم للعناية المكثفة الذي تفتقده المستشفى، ولفت إلى أن المستشفى يحتاج إلى توسعة، وذلك بسبب الازدحام الكبير الذي قال إنه يحتم عليهم في بعض الحالات تنويم أكثر من طفل مريض في سرير واحد، مجدداً تأكيده أن أجهزة المعمل لم تعد مواكبة وتحتاج لتجديد.
سوء تغذية وغيره
على صعيد أكثر الأمراض التي يتردد المصابون بها من الأطفال على مستشفى البلك، فقد علمنا أنها تنقسم إلى نوعين الأولى، تلك التي تتفشى في فصل الصيف الذي تكثر فيه الإسهالات وأمراض الجهاز الهضمي، أما في الشتاء فترتفع معدلات أمراض الجهاز التنفسي، أما أمراض الدم خاصة سوء التغذية فلم نكن نتوقع أن نجده بالمشفى الحكومي المخصص للأطفال، إلا أن نسبته تعتبر عالية، حيث تقدم المستشفى لمريض سوء التغذية علاجاً غذائياً متكاملاً، إلا أن عدداً مقدراً من الأطفال الذين يخضعون للعلاج من سوء التغذية ويتماثلون للشفاء يعودون مجدداً بعد فترة بذات الداء ما يؤكد تردي أوضاع أسرهم الاقتصادية، وهذا الواقع جعل إدارة مستشفى البلك تخصص عنبراً للأطفال المصابين، وأيضاً من الأمراض الشائعة السكري الذي يقدم علاجه مجاناً للأطفال، ويعود المدير الطبي العام الدكتور حسام حسن ويؤكد على أن تقديم المستشفى لخدمة طبية أفضل من التي يقدمها حالياً تتوقف على سد النقص الحاد في الممرضين بالإضافة إلى تجديد أجهزة المعمل، مؤكداً حدوث استقرار كامل في الأدوية بالمستشفى.
مشاكل متعددة
من ناحيته، فإن الأمين العام للمستشفى صديق عبد الله نور الدين يؤكد وجود عدد من المشاكل التي تؤثر على أداء المستشفى منها التأهيل الذي قال لم تخضع له منذ سنوات طويلة، لافتاً إلى أن أبرز معيقات العمل تتمثل في الصرف الصحي الذي يمثل لهم هاجساً كبيراً ويوجهون نحوه شهرياً خمسين ألف جنيه لتفريغ الآبار عبر عربة تانكر، وقال إن المشكلة الأخرى فتتمثل في محول الكهرباء لصغر سعته، وقال إنه أثر كثيراً على الأجهزة بالمستشفى خاصة التي بالعمل وكشف عن أنها تتعرض للأعطال شهريًا بالإضافة إلى المكيفات والمراوح، وقال إن الأعطال الشهرية الناتجة من تذبذب التيار تكلفهم شهرياً عشرة آلاف جنيه، وأشار إلى أن شبكة المياه لم تخضع لتجديد منذ إنشاء المستشفى، وأن جزءاً كبيراً منها يتسرب نحو أبار الصرف الصحي، وكشف عن امتلاك المستشفى عربة واحد عقب توقف الثانية منذ سنوات، وأوضح أن الفترة الماضية شهدت بذل جهود كبيرة لترقية بيئة العمل أبرزها تشييد الجناح الخاص من إحدى عشرة غرفة، وذلك حتى يسهم في رفع إيرادات المستشفى، وأشاد بأحد الخيرين الذي تبرع بتغيير شبكة المياه كلياً، وقد اكتمل العمل، وقال إن النظافة في المستشفى كانت تشكل لهم هاجساً بسبب تقدم عمر العاملين في النظافة وإصابتهم بأمراض مزمنة ،بالإضافة إلى ترك العمالة الأثيوبية للعمل في النظافة بالمستشفى، وقال إن هذا الأمر حتم عليهم الاستعانة بشركة نظافة، ورغم الإمكانيات المحدودة للمستشفى، يقول الأمين العام أنهم نجحوا في تأهيل استراحات الأطباء التي كانت لا تليق بالأطباء، وأشار الى أن الفترة الماضية شهدت صيانة المكيفات وعدداً من العنابر وتأهيل الحوادث.
عقبة الصرف الصحي
وقال إن مشكلة الصرف الصحي انعكست سلباً على الحمامات التي تنبعث منها روائح كريهة رغم تأهيل أربعة منها، وتوقع بعد صيانة شبكة المياه أن تتراجع مشكلة الصرف الصحي، وقال إن إدارة المستشفى وضعت عدداً من المشاريع المستقبلية منها ترقية البيئة العامة التي اعتبرها غير مرضية.
ويرى الأمين العام أن البيئة لا تتناسب مع امتلاك المستشفى لأفضل الكوادر الطبية، ويشير إلى أن صيانة العنابر من الأعمال التي اهتموا بها خلال الفترة الماضية وأن العمل ما زال مستمراً، وأشار إلى أن الإيرادات الذاتية للمستشفى تتراوح ما بين مائة إلى مائة وسبعين ألف جنيه أما دعم المستشفى الذي أكد استقراره وانسيابه في وقته من قبل وزارة الصحة الولائية فيتراوح بين المائة والمائة وخمسين مليوناً، بالإضافة إلى دعم التأمين الصحي الذي يتراوح أيضا بين الأربعة وعشرة آلاف جنيه، وقال إن منصرفات المستشفى الشهرية تبلغ ثلاثمائة وسبعين ألف جنيه، ويرى أن محدودية إمكانيات المستشفى تقف عائقاً أمام إدخال الكثير من التحسينات، وشكا من النفايات التي تتراكم حول المستشفى خاصة في سوق الرابعة، وقال إن هذا من مهام المحلية التي تمت مخاطبتها لإيجاد علاج لهذه المشكلة التي قال إنها تشكل لهم هاجساً، مبيناً أن رسوم النفايات تبلغ شهريا ثلاثين ألف جنيه، ورأى أن هذا مبلغا كبيراً يؤثر على تطوير المستشفى، مؤكداً أن محدودية إمكانيات المستشفى أثرت سلباً على الحوافز التي تعتبر سبباً أساسياً لنزيف الكوادر خاصة الممرضين الذين يجدون أوضاعاً أفضل في مستشفيات أخرى فيتركون العمل في البلك، وشدد على أن مشكلة الكهرباء تحتاج لمحول جديد لفصل كهرباء المستشفى عن الحي، وقال إن المحول تكلفته عالية وتربو على الأربعة ملايين جنيه، مؤكداً أن الكهرباء تحتاج لحل عاجل لأنها تتسبب في حدوث أعطال بالأجهزة والتكييف والإنارة.
إلى الخيرين
قلت للأمين العام لمستشفى البلك وأنا أتأهب للخروج بعد انتهاء جولتي: ماذا يحدث إن وجدتم مبلغ مليار جنيه”بالقديم وهو يدفع للاعب كرة قدم أو نثرية لوفد من السياسيين”، فتبسم وأجابني: والله نلقى المبلغ ده، نحول المستشفى الى تحفة في كل شيء”، لا نناشد الدولة التي وضعت التعليم والصحة في آخر سلم موازنة العام 2017 بل نقول للخيرين إن أطفالاً صغاراً في مستشفى البلك في انتظاركم.
الصيحة