الطيب مصطفى

المؤتمر الوطني ومهمة الإصلاح السياسي الشامل

لست ممن لا يعجبهم العجب (ولا الصيام في رجب) ، كما يقول المثل الشعبي الساخر ، لأبخس من توجه المؤتمر الوطني لتدريب ألف شاب (لقيادة المستقبل) مما أعلن عنه نائب رئيس الحزب الحاكم ومساعد رئيس الجمهورية المهندس إبراهيم محمود فهذا من التحامل المرضي الذي لا ينظر إلا بعين السخط التي تبدي ضوء الشمس الساطعة في هيئة كتلة ممتدة من الظلام الدامس ولكن!.

أقول إن من حق الوطني بل من واجبه أن يدرب الآلاف من شبابه (لصناعة المستقبل) داخل السودان وخارجه فقد أوتي من السلطة والثروة ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ولكن متى يقتنع الوطني أن مستقبل الوطن أولى من مستقبل الحزب الحاكم وأن الديمقراطية التي ما قام الحوار الوطني إلا من أجل ترسيخها كأفضل وسيلة لقيادة الممارسة السياسية وإحداث التغيير تقتضي إصلاحاً سياسياً شاملاً لا يتأتى من خلال حزب واحد يغدق عليه المال الوفير والتدريب الكثيف بينما تحرم القوى السياسية الأخرى بل ويضيق الخناق عليها تفتيتاً وتمزيقاً وإضعافاً وحرماناً من المال والممارسة السياسية الحرة والمعينات الكفيلة بتوفير الحد الأدنى مما يقيم أودها ويرتق فتوقها ويطور أداءها ويمكنها من الاضطلاع بدورها الوطني المستقل عن ثدي الدولة وحزبها الحاكم.

والله العظيم ليس من العدل الذي يقتضيه المشروع الذي رفعه المؤتمر الوطني أن يحتكر المال والسلطان بالرغم من علمه بل اقتناعه بأنه لا سبيل إلى الحكم الراشد بغير إقامة نظام ديمقراطي يقيم معارضة قوية ومحترمة ويكرس التداول السلمي للسلطة بعيداً عن الاحتراب والتشاكس والتنازع الذي أنهك بلادنا وعطل مسيرتها.

كان على الوطني وحكومته ، وهو يرفع شعار الحوار الشامل بهدف الانتقال ببلادنا إلى تراضٍ وتوافق وطني يجمع الأمة بمكوناتها السياسية والاجتماعية ، أن يسعى إلى إصلاح المناخ أو البيئة السياسية ويمهد الطريق لإقامة ممارسة ديمقراطية راشدة وهذا لن يتأتى من خلال هذا الواقع البائس الجاثم الآن على المشهد السياسي.

أكثر من مائة حزب سياسي وحركة مسلحة انضووا في الحوار هذا بخلاف الممانعين ، وهم كثر ، الأمر الذي ينبئ عن حالة مدهشة من التشرذم الذي يشهد عليه أن الحركات المسلحة التي تزيد على الثلاثين تناسلت من ثلاث حركات رئيسية كلها تستند على مرجعية سياسية واحدة كما يشهد عليه أن أحزاب البعث مثلاً يبلغ عددها أربعة بالرغم من أنها لا تقوى – مجتمعة -على كسب دائرة انتخابية واحدة، الأحزاب الخارجة من جسد حزب الأمة والحزب الاتحادي بل وحزب المؤتمر الوطني وأحزاب كثيرة (مخطرة) غير مسجلة تملأ الدنيا ضجيجاً وزعيقاً ..كل هؤلاء وأولئك تمور بهم الساحة وكل يزعم أنه جدير بحكم السودان.

مجلس شؤون الأحزاب المنشأ لتنظيم العمل السياسي (لا يهش ولا ينش) ولا يتدخل لحسم هذه الفوضى من خلال تطبيق قانونه لأسباب مجهولة.

الجميع يعلم أن الأحزاب السياسية هي المواعين التي تجمع ولاء الأمة وأنه كلما كثرت المواعين وتعددت كلما تمزق الشعب وتفرق فهي ممسكات للوحدة الوطنية وكلما قلت تلك الممسكات كلما تزايد تماسك الشعب والعكس صحيح.

ظللت أضرب المثل بأمريكا التي يبلغ عدد سكانها (315) مليون نسمة (عشرة أضعاف سكان السودان تقريباً) بينما بها حزبان كبيران هما الجمهوري والديمقراطي وكذلك الحال في معظم دول أوروبا ، منشأ الديمقراطية وحاضنتها ، أما نحن فحدث ولا حرج.

كيف بربكم نقيم نظاماً ديمقراطياً ينقل بلادنا إلى بر الأمان ونحن بهذه الفوضى الضاربة الأطناب؟

السودان بلد حديث التكوين وكان الأولى بالتخطيط الاستراتيجي أن يعمل على تحقيق الأهداف والسياسات الكفيلة بتوحيد الشعب حول هوية مشتركة ولكن للأسف كانت الفيدرالية بشكلها الكارثي الحالي أكبر معول لتمزيق البلاد وتحطيم وحدتها الوطنية (وكأنها ناقصة).

أرجع لأقول إنه ما من سبيل للإصلاح السياسي إلا بتناول هذه التحديات والبحث عن مخرج لحالة التشرذم والتمزق السياسي والوطني التي تعيشها بلادنا ومعالجة الضعف الذي تعاني منه الأحزاب مع العمل على توحيدها على مرجعيات فكرية وسياسية ولم أتطرق بالطبع إلى تحدي سيادة الولاء القبلي وتقدمه على الولاء الوطني الجامع.

صحيح أن الانتخابات القادمة ستفرز واقعاً مختلفاً حيث تتساقط أحزاب كثيرة كالزبد الذي يذهب جفاء ولكن كيف نصل إلى الانتخابات ونحن بهذه الحال في ظل تطاحن غريب على المواقع التشريعية والتنفيذية القليلة المتاحة للتوزيع على هذا الكم الهائل من القوى السياسية التي تطمع في دور وموقع خلال الفترة الانتقالية السابقة للانتخابات؟

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة