هتاف الصامتين ..!
«ما يحض الناس على الثورة ليس المعاناة نفسها، بل تجربة حال أفضل» .. إريك هوفر ..!
رحم الله الدكتور «سيد عويس» عميد أساتذة علم الاجتماع العرب الذي أبدع وتجلى في تحليل العادات السلوكية والظواهر الاجتماعية في المجتمعات العربية من خلال أضعف أيمانها «سلوكها العفوي»، والذي كان أول من تناول بالبحث والتحليل العلمي تلك العبارات المكتوبة على مؤخرات المركبات العامة، في كتاب عظيم أسماه «هتاف الصامتين» .. كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، أما اليوم فنحن بحاجة إلى «سيد عويس» جديد يتناول المتغيرات الفظيعة التي طرأت على هتاف أحفاد أولئك الصامتين، ويا له من هتاف ..!
ماذا يفعل المواطن عندما يحاصره الشعور باللا جدوى من كل جانب، فلا تجدي حملات مقاطعة السلع، ولا تنجح خطب أئمة المساجد التي تندد باستحكام الغلاء في أن تجعل إثماً يحيك في صدرمن لا يملك نفسا لوامة؟! .. هو في الحقيقة لن يفعل شيئاً مع أنه سوف يفعل كل شيء ..!
ليست منصات المنابر، أو صفحات الجرائد، أو حتى منشورات المعارضة المستترة المكتوبة بحبر المقاومة السري، فتلك وسائل احتجاج الساسة الطامعين، أو السادة المترفين، أما شكوى الغلابة وهتافات المطحونين فستجدها مكتوبة باختزال بلاغي وتكثيف لغوي شديد البراعة على خلفية لوري سفري يقول «بس تشيل فوقي وتودي»، أو جدار مركبة عامة تصيح «في الشوارع شوفي كيف الناس تصارع»، أو مؤخرة ركشة تصرخ «نفسي أقطع الكوبري» ..!
لماذا إذاً لا يناقش خبراء الحكومة ومستشاروها بالبحث والتحليل مهددات عافية المواطن أعظم الموارد البشرية، الذي يواجه اليوم تغييراً سلوكياً رهيباً، بعد أن تكالبت عليه المحن الاقتصادية وأمسك بخناقه غول الغلاء، حتى استحقت سلوكياته أن تكون موضوع دراسة ترصد خضوعه لثقافة الانفتاح وأخلاقيات الفقر والقهر، وتقيس انخفاض معدلات احترام الآخر وتقدير الذات في دمائه، وتأتي لنا بخبر تلك اللامبالاة غير الأخلاقية التي باتت تكلل سلوكه العام ..؟!
قراءة التاريخ تقول إن لكل المصائب والكوارث الاجتماعية، والمآلات الاقتصادية والسياسية إشارات أو مقدمات، تنذرنا قبل وقوعها بشيء من “القرقعة” .. ولئن كانت
حكومة السودان تؤمن بأن الحاجة هي “أم” الثورات، و”خالة” الانفلات الأمني، فلترحمنا من مساعي بعض الانفصاليين القدامى نحو “طلبَنَة” المجتمع بعد ضياع الجنوب .. ومن إصرار فقهاء المنصات على تسييس الأحكام الشرعية وأدلجة الفتاوى الدينية .. ومن تعميق نعرات الصفوية القبلية وتفاقم مظاهر أبلسة الآخر .. ومن أوهام النقاء العرقي التي تكاد تعصف باستقرار المجتمع .. ومن تلك العروض المسرحية التي يقدمها معظم ساستها التنفيذيون للتظاهر بالعمل .. إلى آخر ذلك الغبار السياسي الكثيف والمزعج حقاً – الذي يبقى في نهايته مجرد غبار، لا يفسد طهراً، ولا ينقض بيعة – ولتلتفت إلى – مصدر الزلازل المتحملة – هتافات الفقر وأصوات القهر العابرة للطبقات .. فهل من مُذَّكر ..؟!
هناك فرق – منى أبو زيد
صحيفة آخر لحظة