مِهن ومِحن (14)
أبقى مع الأطباء، لأنهم أكثر المهنيين تعاملا مع البشر، ومن البشر من هم غجر أو تتر، ويسببون للطبيب الضغط والسكري والشد العصبي مهما تحلى بطول البال والصبر، والانطباع العام لديّ، هو أن الأطباء راحت عليهم في زمننا الحالي، أو كما نقول في السودان «زمنهم فات وغَنَّايهم مات»، ويعني أن نجومهم أفلت، ولم يعد هناك من «يغني» لهم ويمجدهم كما كان الحال في سالف العصر والأوان، عندما كان عددهم قليلا ومداخيلهم عالية، فقبل نحو ربع قرن مثلا، كان الطبيب الممارس العام الـ «GP» يحظى بمكانة اجتماعية عالية لندرة الاختصاصيين الطبيين وبالتالي سهولة التواصل معه، وفي البلدان التي تتمتع شعوبها بوعي صحي، فإن المريض يتوجه أولا إلى الطبيب العام، أي غير الاختصاصي، لأنه الركن الأساسي في الخدمات الطبية، وهو الذي يحدد مسار العلاج، وهو الذي يحدد نوع التخصص الطبي الذي يحتاجه المريض، واليوم – خاصة في الدول العربية – ما أن يكمل الطبيب فترة الامتياز، وهي أول سنة أو سنتين له في المهنة ليصبح من حقه نيل الحكم الذاتي ومقابلة المرضى، حتى يبدأ في التفكير في التخصص، وحتى التخصص لم يعد «يؤكل عيش» بمستوى معقول، ولا يستطيع الطبيب مجاراة أبي حنيفة رضي الله عنه، ويمد رجليه مسترخيا، إلا بعد أن يصبح استشاريا، وهي رتبة ما أن يصلها الطبيب حتى يكون قد «قرف من عيشته»، فلكي ينجح الطبيب عليه أن يظل «طالبا» ما دام يمارس المهنة، فلا يكاد يمر شهر دون اكتشاف او اختراع يؤثر سلبا أو إيجابا في طرق التشخيص والعلاج، وبالتالي فإن نيل الطبيب لقب «الاستشاري» لا يعني أنه بلغ الكمال في العلم و«مو ناقص شي»، ولهذا تسمع أن فلانا استشاري نابه وشاطر، ويكون السر في النباهة والشطارة أنه يحضر المؤتمرات الطبية ويقرأ الدوريات المحكّمة ويتابع ويواكب المستجدات في مجال تخصصه.
وأكثر المِحن في مهنة الطب هي ساعات العمل التي تسبب اضطراب الساعة البيولوجية، فقد يعمل الطبيب ثلاثة أيام من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساء، وفي اليوم الرابع قد تكون مناوبته من الثالثة عصرا حتى منتصف الليل، ويكون في اليوم الخامس «أون كول on call» أي جاهزا للاستدعاء في أي وقت، ولهذا فإن معظم زيجات الأطباء والطبيبات تصبح رغم أنوفهم مسيارية، يكون فيها للزوجة – وليس الزوج وحده كما في زواج المسيار الذي صار من المقبول شرعا – حق «السير» خارج بيت الزوجية لأي مدة تقتضيها الضرورة، والمصيبة إذا كان الزوجان طبيبان، فعندها تصبح لقاءاتهما كلقاءات المراهقين: نتقابل في كافيتريا المستشفى.. أشوفك في الممر قدام الصيدلية.. لا هناك زحمة.. نتقابل قدام كاونتر علاقات المرضى. وللا أقول لك.. ندردش بالواتساب!! ولكن العنصر الإيجابي في زواج طبيبة وطبيب هو أن الزواج لا يتعرض لهزات، فلأن العلاقة بينهما ترانزيت فإنها تخلو من المناقرات والمشاكسات واللوم المتبادل بالتقصير والنقنقة، لأنهما يستغلان اللحظات القليلة التي يتواجدان فيها سويا في بيت الزوجية في الراحة النفسية والجسدية، وفي غالب الأحوال يكون مثل ذلك البيت تحت كفالة خادمة، هي ست البيت الفعلية، وليس من المستغرب أن طبيبا استشاريا مسئولا عن إدارة كاملة ويتبع له نحو 150 طبيبا وفنيا وإداريا، قد يتعرض لـ «التهزيء» في البيت عندما تصيح فيه الخادمة الآسيوية: شنو هادا مسكرة بابا.. أنا في يقول أنت لازم يجيب لَهَم وتشيكن وتوماتو وكيار منشان سلاتة وأنت يجيب بس كلينكس.. أنا تابان ما يقدر يروح سوبر ماركت.. يللا روح أنت.. أوووه.. كل يوم أنت قول «أنا تابان».. أنت ما يريد أكل.. أنا يريد أكل.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]