في الذكرى الخامسة لرحيله.. تداعٍ في حضرة حميد .. رحلة في عوالم الألق والقلق
هل رأيتم من قبل قلماً ينتحب أو كلمات يتفجرن حزناً وأسى، فإني اليوم أكتب بمداد من دمع وأذرف الدموع على الحروف وأتلوى من فرط ما بي من وجع، وقد قسوت على نفسي أيما قسوة حين دعوتها أن تترك صمتها لتبوح وتغرق في بحر لجي من المشاعر المتلاطمة، وقد اشتدت بي الريح في يوم عاصف وتملكتني حالة من الحزن الهستيري والهوس المشاعري، وـنا لا ـدري من أين أبدأ أو أين أنتهي؟
يأتيني صحوا ومناماً وأذكره قائماً وقاعداً، فقد كان مني بمثابة الروح من الجسد ومرة أخي تملكتني حالة من الهذيان الروحي ولكأني درويش في حضرة المجذوب. ومذ عرفته لم يكن يحدثني إلا لمامًا، ولكني احتويته في ذاتي معنى وتخذته ملهماً ومعلمًا.
لم أكن أعرف حميد، ولم يكن يعرفني حتى لقائنا عند هاشم الرهيو، وكنا وكأننا نعرف بعضنا منذ الأزل، لم أعانقه، لم يعانقني، ولست أدري هل مددت إليه يدي مصافحاً، وبالقطع فإن ذلك لم يحدث لأن بكفه اليمنى (صواميل) قد نزعت من ذلك “البوكس” لصاحبه هاشم الرهيو. قال لي يومها (أنا من أمبارح شايل الهنايات ديل)، ولم يلبث إلا قليلاً حتى باح لي بما يعتمل في صدره من حزن وأسى بليغ. قال لي أنه ومنذ وفاة مصطفى .. لم يكمل الحديث لأنني قد أدركت ما يرمي إليه.
في ذلك الوقت لم يكن قد مضى على رحيل مصطفى سيد أحمد وقت كثير، وقد احترمت حزنه وسرى جو من الصمت البليغ لم تقطعه إلا كليمات من هاشم الرهيو حينما قال مداعباً : (أعمل حسابك يا حميد، عمار دا من الجماعة).
كانت تلك اللحظة اللقاء الأول والتي دشنت فيها علاقتي بحميد، وقد حدث بيننا وصل روحي خافت تعمق وتجذّر بفعل الزمان والمكان وإن كان قد أطلق صرخة ميلاده في نوري فقد أطلقت صرخة ميلادي في القرير (إن لبستي الطرقي ياك بت الفكي أحمد .. وكان لبستي الفردي ياك بت الفكي أحمد)، وحسونة حين قال ذلك كان يعني أمهاتنا اللاتي أرضعننا.
وما بين نوري والقرير وصل قديم، وتواصل مستمر، وها أنا قد ولجت في عالم حميد وتغلغلت في مسارب روحه ومسام ذاته، أدركته حد الإدراك، وعرفته غاية العرفان، وانتهى إلى الطريقة الختمية التي وإليها قد انتهيت، وكان يرفض أن يخلع جلبابه الأصفر لأنه من السيد محمد عثمان الميرغني، وكان يقول: (أنا تاني ما بطلع الجلابيي دي)، وكنت قد أهديته سديري خلصته من نفسي وألبسته إياه، وكان يذكر ذلك دائماً بمناسبة أو دون مناسبة.
لا شك أنه رجل من نوع خاص، وبطعم وبلون مختلف متفرد وليس له نظير على نطاق هذا الكوكب، وفي كل الكرة الأرضية. كانت أرض وحيه المقدس جريف نوري وقد غضب مني حين لم آته في منزله، وقد كان نزلي عند (الرمرماب) وأولاد العوض. لم أكن أدري أن الزمان سوف يفرقنا ولو كنت أعلم الغيب لمكثت عنده مكثاً طويلاً وأقمت بداره طوال الوقت، وقد هاتفته مرة وقال لي : (والله أنا هسي قاعد في الوغشي التحت، وما فاطر، والجوع دار يقطع مصاريني). انتابتني لحظة من الحزن ولكن ليس لدي ما أفعله سوى أن أحزن له، فأنا لست بأحسن حال منه، وهذا قدره وقدري أن نواجه ضيق ذات اليد وأن نكون تحت رحمة غيرنا من الذين يستمتعون برؤيتنا على ذلك الحال.
تروني أبحث عن قواسم مشتركة بينه وبيني، وهذا شأن الكتابة دائماً، فكلانا شاعر، وإن كان البون بيننا شاسع، إلا أننا شايقيان من رحم مروي الولود، وكرفنا من نسيم الشمال العليل وملأنا عيوننا من جبل البركل وامتدت أبصارنا عبر جبل أبنعوف، وكنا أولاداً للنيل (البحر) وتطلعت عيوننا ونحن صغار إلى قمة الدوم والنخيل وغمسنا ثمار المانجو في ماء الجدول الرقراق، وامتصصنا منها الرحيق، وعمنا في الحفير، وسحبنا الجدول من البئر، وحششنا القش للغنيمات، وامتطينا صهوة الحمير، وشبعنا من القراصة، وارتشفنا الشاي باللبن المقنن، ولعبنا شدّة وحرينا، وداعبت نياط قلوبنا أوتار الطنبور.
ما باله حميد ينتهرني وأن أتناول مرق الكوارع في مطعم (الموناليزا)، ويقول لي (هي الشي دا ما قاعد ياكلوه كدا) فأرد الملعقة عن شفتي، وأمد يدي إلى الرغيف أغمسه في ذلك المرق اللزج ولا أكلف نفسي حتى مجرد النظر إلى وجهه، ولو كنت أدري إني مفارقه لما رددت بصري عن وجهه الذي يبدو بلا ملامح واضحة، وقد غطت عينيه النظارات وكست العمامة رأسه وغطت شعره المسدل.
وفي حضرة حميد حين يحلو التداعي وهو يمسك بكتفي ابني الصغير ويهزها بقوة، كان في قمة الانفعال وقتها ولم ينبس ببنت شفة، كان في حالة جذب صوفي واستغراق روحي حد الثمالة، ترى ما الذي كان يعتمل في صدره وقتذاك وهو يمسك بكتفي الصبي الصغير الذي رحلت عنه أمه وهو في سن الرابعة عشرة.
كان يرافقها كل يوم إلى المدرسة حيث كانت تعمل وحيث كان يدرس، وقد استيقظ ذات صباح ولم يجدها، كان جثمانها قد ووري الثرى، ولم يحتمل الصبي ذلك المشهد وانفلت من بين يدي أبيه ليغادر المكان، وكان حميد حاضراً يرافقها منذ أن كانت في المستشفى من بعد أن دهستها سيارة في الشارع العام. كان حميد يجلس لا يتكلم وهي في غرفة الانعاش، كان صامتاً صمتاً غريباً وابني الأكبر يجلس الى جواره وفي قبالته يتأمل وجه ذلك الشاعر الكبير حتى إذا ما فارقت الحياة عصراً كان حميد وحوله أهله من نوري يتوسط كل اليوم، ذلك المكان في سرادق العزاء، ولعلها كانت مثل (عم عبد الرحيم) في قصيدته التي غناها مصطفى سيد أحمد وبذات الطريقة لقي حميد حتفه، وكانا شهيدين في الجنة.
أي حزن يعتريني، وأي اسى يعتصرني قلبي حين أذكر حميد الذي لا تربطني به صلة قرابة ولا وشيجة رحم ولكنها وسائط الروح وهي أعمق، وقد جمعتني به سنوات هي خلاصة عمره وعصارة تجربته، التقيته وقد قوي عوده ونضجت تجربته وتعتقت حياته وسما وجدانه ورهف حسه المبدع وتحقق له الكمال الإنساني حين كان شاعراً للقضية وبيني وبينه عطبرة والسكة حديد وشرق السودان ونوري والبركل وحسونة وحسن الدابي وست الدار والسرة بت عوض الكريم.
شكراً لمن كان له القدح المعلى في استفزازي لإخراج هذه الكلمات التي كنت أهرب من كتابتها، وقد تنفست شعراً في قصيدة في رثاء حميد وما أدري لعل الزمان يمتد بي لأكتب السيرة الذاتية لحميد وهي إبحار في مستوى رفيع من الإحساس العميق جداً، وأفق لا محدود، وبعد غير مشهود يحرقن الجوى وأنوار تنبعث من ذات نورانية وروح سماوية في الورى، محمد الحسن سالم (حميد) واسمه في الوجود ليس كاسمه في الشهود وهو الآن في عالم الغيب وإن كنا في عالم الشهادة نذكره ويذكرنا فهو رجل قد نذر نفسه للناس وتفاني في خدمة الآخرين، يرفع جلبابه ويخرج من جيب العراقي ورقة من فئة الخمسين يمدها إلي ويا لها من خمسين كم فيها من المعاني والمضامين.
بقلم : عمار محمد آدم
الصيحة