جعفر عباس

مِهن ومِحن (16)

[JUSTIFY]
مِهن ومِحن (16)

نعم فما من مهنة إلا وصاحبها يتعرض، أو يعرّض غيره لامتحان/ محنة، وتوقفت بالأمس عند مهنة الضيافة الجوية وأقول إنه لو لا قدر الله عملت في ذلك المجال لقفزت من شباك طائرة بدون برشوت/ مظلة بعد أسبوع واحد من التجربة، وربما دخلت السجن بعد أن أصب قهوة ساخنة على رأس راكب لحوح سخيف، وأعرف أن الضيافة الجوية حلم ملايين الشباب من الجنسين الذين يعجبهم في المهنة ما ينفرني منها، وهو السفر المتواصل، ويقول أولئك الحالمون: يا سلام أصير مضيف/ مضيفة وكل يوم في بلد وأزور في أسبوع واحد عشرة بلدان على أقل تقدير. يا ابن/ بنت الناس، أنتم فاهمين المسألة غلط، فقد تعملون في الضيافة الجوية عشر سنوات تنزلون خلالها في مطارات 87 دولة، ولكن ذلك لا يعني أنكم «تزورون» تلك البلدان، فطبيعة عملكم تحتم في أحيان كثيرة النزول من الطائرة والبقاء محبوسين في المطارات في انتظار استئناف رحلة أو اللحاق برحلة جديدة، وبالطبع فهناك مدة معينة من الطيران يكون من حقكم بعدها البقاء في بلد ما لـ24 أو 36 ساعة في فنادق جميلة، ولكن ما إن تدخلوا تلك الفنادق حتى يكون الواحد منكم «فطس» من الإرهاق الجسدي والنفسي فينام معظمكم حتى دون خلع ملابس الشغل.
تعالوا نستعرض مهام الضيافة الجوية الأساسية: قبل صعود الركاب، التأكد من نظافة الكابينة والممرات، ومع صعود الركاب، لابد من توجيه كل واحد منهم إلى مقعده المحدد في بطاقة الصعود، وفي منطقتنا فإن فئة من الركاب تتعامل مع الطائرة كما تتعامل مع الحافلة وتجلس في أقرب مقعد، (بنا ولع عجيب بالجلوس قرب نوافذ الطائرات، وكأن تلك المقاعد ستتيح لك فرصة الاستمتاع برؤية المروج الخضراء والأنهار والشلالات المتدفقة.. لا يا حبيبي، فنافذة الطائرة لن تسبب لك سوى الكوابيس، لأنك تنظر من خلالها وتحسب أن الطائرة متجهة رأسا إلى جبل ذي صخور داكنة اللون، وحتى بعد أن تدرك أن ذلك الجبل مجرد سحابة حبلى بالمطر، فإنك تدرك أنك تحلق على ارتفاع نحو عشرة كيلومترات)، وما من سفرة في طائرة عربية إلا وتحدث فيها ملاسنات بسبب تمسك بعض الركاب بالجلوس في المقاعد التي «تعجبهم»، فإذا قلت لأحدهم إن المقعد رقم كذا مخصص لراكب آخر، وأن مقعده يحمل الرقم كذا، صاح فيك: وش المشكلة؟ خلي الراكب الثاني يروح يجلس مكاني طالما نحن في نفس الطائرة، ومسافرين لنفس المدينة (الطرفة القديمة عن القروي الذي ركب طائرة لأول مرة، متجهة – مثلا- إلى قبرص، وجلس على مقعد في الدرجة الأولى وفشلت توسلات المضيفين والمضيفات في إقناعه بالانتقال إلى الدرجة السياحية لأنه «مبسوط ومرتاح هنا»، فتطوع أحد الركاب لحل الإشكال، وذهب إلى الراكب وهمس ببضع كلمات في أذنه فما كان منه إلا أن غادر قمرة الدرجة الأولى، فسأل طاقم الضيافة ذلك المتطوع عما قاله للراكب العنيد فقال: قلت له: الذين يجلسون على مقاعد الدرجة الأولى ذاهبون إلى الصومال وليس قبرص).
وبعد أن يجلس الركاب يقوم طاقم الضيافة بإغلاق الأرفف العلوية المخصصة للأمتعة اليدوية، ولازم وحتما كذا رف «يعصلج» لأن راكبا أو أكثر يحمل حقيبة يدوية حامل في شهرها التاسع، وبالتالي منفوخة ولابد من تحريكها وزحزحتها يمنة ويسرة حتى تستقر في وضع يسمح بإغلاق الرّف.. وكثيرا ما يحدث أن يعجز بعض حاملي الشنط الحوامل عن رفعها فتجد مضيفة مكعكعة نفسها مرغمة على تقديم يد العون لرفعها (ولهذا تشترط شركات الطيران عدم زواج المضيفات لأن الواحدة منهن لو كان حاملا ورفعت شنطة حبلى لتعرضت للإجهاض الذي يقود إلى إجهاض الرحلة نفسها)

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]