منى ابوزيد

في بيتنا دوبيت ..!


«أبوي القافية والغنية المبارية شعاري .. وأبوي الخزنة والقلب البشيل أسراري .. أبوي لي حزني وآلامي بيشيل ويضاري .. أبوي شيخ البلد، ثابت، أصيل، عقَّاري» .. شعر شعبي معاصر ..!
قبل أيام رافقت شقيقتي لحضور حفل نهاية العام الدراسي – الذي أقيم هذه المرة قبل الامتحانات النهائية للمرحلة الإبتدائية – بمدارس القبس الإنجليزية، وكان مبعث حماستي هو أن صغيرتنا “جود” ستشارك في فقرة شعبية، بعنوان “ريحة البن”، وستلقي فيها أبياتاً عصماء من إحدى قصائد الشعر الشعبي المعاصر .. كانت قد عكفت على حفظها لأيام طويلة ..!

في البدء كانت شقيقتي قلقة من وقوع اختيار الأستاذة إسلام – مسؤولة الصف التي أعدت الفكرة وأشرفت على تنفيذها – على صغيرتها، لإلقاء مقاطع من هذه القصيدة، لوعورة مفرداتها الشعبية، التي اعتقدت هي أنه قد يصعب على طفلة بالصف الثاني الإبتدائي فهم معانيها، ناهيك عن حفظها .. لكنني ساهمت في إقناعها بضرورة خوض التجربة لسببين: الأول هو ذكاء الطفلة الأكاديمي الذي تشهد عليه نتائجها الباهرة، والثاني هو ذكاءها العاطفي الذي يدلل عليه سلوكها الخاص والعام ..!

حفظ القصيدة تطلَّب أن يدخل الكبار أيضاً في امتحان قدرات لشرح بعض المفردات على غرار (الدود البنشِّف .. حارس قيفو .. أسد الكداد .. اللضينة .. عقَّاري .. همباتي .. إلخ ..)، وهي كما ترى مفردات غير متداولة، لذا كان الامتحان عسيراً لسببين: الأول أن الجيل الأول من شُرَّاح المعنى “دناقلة” – أي من غير الناطقين بها – وهم قوم إن بالغوا في طلب الفصاحة نهلوا من مفردات القرآن الكريم، حيث المنبع، واجتبوا مصبَّات “الدوبيت” والذي منه .. والثاني أن الجيل الثاني من شُرَّاح المعنى “شهادة عربية”، نشأوا خارج السودان وساروا على هدي المناهج السعودية، ولم يسمعوا بمفردات وعرة على غرار (اللضينة.. وأسد الكداد .. إلخ) إلا في مرحلة الدراسة الجامعية!

لكننا أنجزنا المهمة بنجاح، وأذكر أن شقيقتي قد أرسلت إلي – قبل أيام من موعد الاحتفال – مقطع “واتس آب” تقف فيه الصغيرة بثبات وهي تردد في مرح مقطعاً من القصيدة (يا حروف الشعر أرجوك طاوعي لساني .. فوق شيخ البلد الفارس الخرساني .. مسدار الحروف خليه يجي ويغشاني .. داير أوفي أبوي ما أظن بطلبك تاني .. أبوي وسط الرجال ما بيتوصف بالفاقة.. أبوي شيخ البلد جاسر الصفوف فتَّاقة .. أبوي ألفي الكرم بيبانو مابتتاقى .. أبوي إن جاو عدوه بيكرمو ينحر ناقة) ..!

الفضل لله، ثم للأستاذة “إسلام” في أن يكون نصيب الصغيرة من معين الشعر الشعبي أوفر كثيراً من نصيب أمها التي تخرجت في جامعة الخرطوم، وتعكف على دراسة الماجستير وهي لا تكاد تفقه شيئاً عن (همباتي الحروف .. وأسد الكداد .. الديمة حارس قيفو) .. ومثل هذه الفجوات الثقافية هو مربط فرس المقال!

كان العرض رائعاً وسودانياً صميماً – وكانت الجلسة تراثية أصيلة – لبس الصغار أزياء شعبية رائعة (الصغيرات فساتين مكونة من قماش “القرمصيص” والصغار عراريق وسراويل وسياط جلدية) .. حملوا الأطباق وطافوا على الحضور بخيرات السودان المحلية .. ورقصوا على أنغام الدلوكة .. وألقوا مقاطع رائعة من عيون الشعر الشعبي..!

الأستاذة “إسلام” تستحق التقدير والإشادة لأنها قدمت نموذجاً يحتذى لمعلمات المدارس الخاصة – والأجنبية على وجه الخصوص – واجتهدت في أن يتشارك الصغار لوحة عاطفية يرسمونها بفخر برئ، ويستعرضون عبرها قيم الخير والنبل والجمال .. والأهم من ذلك كله أن في تلك التجربة ترسيخ رائع لمعاني وطنية وقيم إنسانية زاخرة في عقول وأفئدة هؤلاء الصغار، الذين يشتكي آباؤهم من زحف الثقافات الوافدة – عبر مناهج الدراسة – على تكوين شخصياتهم في المستقبل ..!

هناك فرق – منى أبو زيد
صحيفة آخر لحظة