مركزية الإحصاء
«الأرقام المثالية نادرة مثل الرجال المثاليين» .. ديكارت ..!
في إحدى كاريكاتيرات «فنجاط والعايلة» – التي يقدمها المبدع «إسماعيل حمودي» بصحيفة اليوم التالي – سمعت نسيبة «فنجاط» عن ارتفاع الدولار، فطلبت منه أن يحسب لها قيمة حفنة من الدولارات كانت تخبئها للزمن – على طريقة أمناء المال في بعض أسر الشعب السوداني «الفضل» – وعلى الرغم من تواضع المبلغ، وبساطة العملية الحسابية، أخذ «فنجاط» يتفلسف ويتوسل الاهتمام بإقحام المصطلحات الرياضية على غرار «س» .. «ص» .. و»الجذر التربيعي» .. فما كان من نسيبته إلا أن صاحت في امتعاضٍ سودانيٍ أصيل: «هيي يا يمة حليل أبوي» ..!
على طريقة نسيبة «فنجاط» قلت لنفسي – قبل أيام – «حليل أبوي»، بعد أن أستوقفتني «موضة» العناوين الصحفية العريضة، المتواترة في الفترة الأخيرة والتي تتضمن تصريحات يطلقها أصحابها – في اطمئنان – بشأن ارتفاع معدلات كذا وكذا .. وانخفاض معدلات كذا وكذا .. فأخذت الأمر من قصيره وسألت د. «كرم الله علي عبد الرحمن»، المدير العام لجهاز الإحصاء المركزي، عن علاقة ذلك الكيان الحكومي الهام والمؤثر، الذي يرأسه، ببعض الإحصائيات – المطمئنة – التي تتصدر عناوين بعض الصحف كل يوم ..!
«نحن في الجهاز المركزي للإحصاء لسنا الجهة التي تلاحق الناس، وليست لدينا عليهم سلطة، ولكننا لا نقر ولا نعتمد أي بيانات أو معلومات لم يشارك الجهاز المركزي في جمعها وتحليلها، ويجب على الدولة أن لا تعتمد أي بيانات غير التي تصدر عن هذا الجهاز» .. كانت تلك هي إجابة «إحصائي الدولة» في جمهورية السودان ..!
يا للدهشة .. إذاً الجهاز المركزي للإحصاء – وعلى الرغم من كونه الجهة الرسمية الوحيدة التي تمتلك حق إجراء الإحصاءات ومن ثم التصريح بشأنها – لا علاقة له بذلك الهروع الجمعي الكبير نحو الحديث عن ارتفاع المؤشرات .. وانخفاض المعدلات .. والذي منه ..!
ولكن – وهذه الـ «لكن» كما تعلم تفيد استدراك المعنى الأول بمعنى آخر نقيض له – زالت بعض دهشتي عندما علمت أن الجهاز المركزي للإحصاء في جمهورية السودان لم يتحول بعد من النظام التقليدي إلى النظام التقني، على الرغم من كونه أقدم جهاز على المستوى الأفريقي والعربي .. لاحظ أننا نقف – هذا العام – على أعتاب التعداد السكاني القادم، ولا نزال نتحدث عن حاجة الدولة إلى تفعيل نظام تقنية المعلومات ..!
الإحصاء هو حجر زاوية التنمية – وكما يقول د.»كرم الله» لا تنمية بلا خطط .. ولا معلومات بلا بيانات .. والإحصاء الحقيقي هو الذي يثبت البيانات .. وبالتالي هو الذي يؤكد المعلومات أو ينفيها .. وعليه فإن أي خطط تنموية لا تعتمد على المعلومات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء لا تعني شيئاً سوى المزيد من التخبط في صنع القرار وإدارة تنفيذه ..!
إن أول وأولى مقومات بناء الدولة إحصائياً هي أن يتمتع الجهاز المركزي للإحصاء بالحرية والشفافية والسلطة الإدارية، وأن لا تمنح أي جهة أخرى الحق في جمع البيانات أو إصدار المعلومات دون الرجوع إلى الجهاز المركزي .. وقبل ذلك كله أن تلتفت الدولة إلى القصور التقني الخطير الذي يكبل أداء هذا الجهاز الأساسي ..!
هكذا – وهكذا فقط – تتمكن الدول من بناء تنميتها المستدامة، بناءاً على معلومات معافاة – كلياً – من أمراض بعض السلطات، وبعيدة – تماماً – عن أغراض بعض المنظمات .. فهل من مُدَّكر ..؟!
هناك فرق – منى أبو زيد
صحيفة آخر لحظة