منوعات

الصورة والأغنية.. عندما يصبح الإنسان ضحية باختياره


اضغط على الزر وسنتكفل بالباقي، عبارة أطلقتها شركة كوداك في العام 1888 لترويج مبيعاتها، فمسألة الإبصار تعتبر استمرارا لمسألة التقنيات التي فرضت على الإنسان شكلا جديدا من الإدراك مع كل ما يترافق مع هذا الإدراك الجديد من دمار وتشويه. ربما كنا نرى الكثير لكننا في الواقع لا نرى شيئاً.
فالتقنيات التي رافقت عملية الإبصار شوهت حقيقة الصورة وبدهيتها. والكم الهائل المتسارع من الصور، وهو ما يعجز الفرد عن استيعابه أو حتى تحمله، خلّف بعداً نفسياً خاصاً.

فالذاكرة بما هي عضو محدد الوظيفة والدور، باتت عاجزة بل ومرهقة وهنا يحل يل الصور المتلاحقة محل الإبصار وتصبح الصورة (بسرعتها) أهم من الفكرة (رغم ديمومتها).

لكن الغريب والمأساوي في الأمر أن كلتيهما تنزاحان من الذاكرة التي تتعرض للنسيان، فالصورة تتلاشى ولا يبقى غير الفراغ الذي يحيط بالمرء من كل حدب وصوب.

وأما الكلمات فتخلي المكان للصورة، إذا لا يمكن للكلمات أن يترجمها الخيال إلى صور، فالصور جاهزة والأفكار منزرعة فيها.

وهنا يعزز إنتاج الصور من دور الأيديولوجيا في المجتمع الرأسمالي ويفرض ثقافة بصرية، فالكاميرا تخضع الواقع وترفضه في آن.

كما أنها تحدد الواقع من خلال تصويرها الجماهير ومن خلال كونها أداة للرقابة يستخدمها الحكام في فرض أيديولوجياتهم، وهنا فقط يتم استبدال عملية التغيير الاجتماعي بتغيير في الصور.

إن تضييق الخيار السياسي الحر وتحويله إلى نزعة استهلاكية اقتصادية حرة تتطلب إنتاجية غير محدودة كما يفرض استهلاكاً للصور والأخيلة.

وإذا كانت بعض التيارات الحديثة في السينما قد تبنت نقل الأفكار والمضامين عبر الصورة والصورة وحدها، فإنما فعلت ذلك بدافع إثراء الفكر الإنساني بأساليب جديدة من التعبير، لكنها أدركت وفي الوقت ذاته أن للصورة درجة إشباعها، إذ لا يمكن أن تحل الصورة محل العقل، وإلا تحول الإنسان إلى مجرد كائن يرى.

وهذا ما لم تفهمه تقنيات الإبصار الحديثة التي دأبت على تصوير وأتمتة نفسها بقدر من السرعة لم يحدث من قبل. وكما عبر عن ذلك المخرج الفرنسي الطليعي – غودار- بلهجة انتقادية (لا يزال السينمائيون حتى اليوم يصورون مشهد القبلة بنفس سرعة الكاميرا التي يصورون فيها مشهد سيارة منطلقة).

لقد ندد المثقفون والمفكرون بالوعي الزائف الذي تفرضه الصورة في أعمالهم. إذ كتب دانييل بروستين في كتابه “الصورة: دليلك إلى الأحداث الزائفة في أميركا” عن التجربة التي يخوض غمارها مع جميع الأميركيين تقريبا” المعنيين بتنويعات جديدة وعديدة من الواقع المزيف.”هذه التنويعات التي تشوش تجربتنا وتعمي بصيرتنا”.

لقد اختار بورستين أن يتماهى مع مجموع البشر الواقعين تحت تأثير سحر الصور عندما قال:”لست أعرف بحق ما هو الواقع، لكنني أعرف الوهم عندما أراه”. إن هذا العالم الذي صنعناه بأيدينا والذي يبعدنا عنه “جنون الصورة” بات عالما خاليا من أية مصداقية، فالعديد من اهتماماتنا نابع من فضولنا فيما إذا كانت انطباعاتنا تشبه الصور الموجودة في الصحف ودور السينما والتلفاز.

بمعنى آخر، هل يمكن اعتبار مشاهد الحب التي نراها على الشاشة مثلاً هي ما يحدث في الواقع؟ ربما لم نعد نختبر الصورة من خلال الواقع، بل على العكس نحن نختبر الواقع من خلال الصورة.

لقد بات ” المصطنع” شائعاً، وبدا الطبيعي وكأنه ” مختلق”. بكلام آخر، باتت تجربتنا اليومية غير قادرة على مواجهة العالم من دون تقنيات تساعدنا ” على الإبصار”. ” لقد جعلنا من أنفسنا ضحايا” إذ ” حولنا المثال إلى الصورة”.

سكاي نيوز