عندما يصبح الفاضي (قاضي)
كان الرئيس التركماني الراحل )1985-2006(، صابر مراد نيازوف، قد تحول خلال فترة رئاسته التي انتهت فقط بتدخل عزرائيل، إلى صنم يتعين على الشعب التركماني عبادته، وتركمنستان واحدة من الدويلات التي أقيمت من دون دراسة جدوى على أنقاض الاتحاد السوفيتي، وفرض نيازوف على الشعب أن يناديه »تركمان باشي«، وتعني »أنت ماما وأنت بابا وأنت كل حاجة في حياتنا نحن التركمان«.
صابر أو تركمان باشي هذا كان يحكم تركمانستان قبل تفكك الاتحاد السوفيتي بوصفه زعيم الحزب الشيوعي المحلي، وخلال تلك الفترة قام بإغلاق المساجد، ولو كمشوك جماعة الشرطة حتى وأنت تصلي في بيتك، يا ويلك وظلام نهارك وليلك، ولما طارت السلطة من الحزب الشيوعي، صار ديمقراطيا، وأعلن أنه حامي حمى الإسلام من الصين إلى بلاد العم سام.
ولكن، ولأن السلطة المطلقة تفسد فسادًا مطلقًا، فإن صابر »بيه« هذا )وشعبه هو بالصابر( قرر فجأة منع اللحى والشوارب، وكانت البداية مرسومًا جمهوريا يمنع إطالة شعر الرأس، ثم رأى فخامته أن الشنب واللحية شيئان مقرفان، ولأنه وهو رئيس دولة مزمن، حسب نفسه »مؤبدا« في السلطة -وأمثاله لا يذكرون الموت أبدا- وكان بلا شنب أو لحية، فقد أعطى أفراد شعبه مهلة أسبوع واحد ليتخلصوا من لحاهم وشواربهم، وقال الفرمان الجمهوري إن وجود أي شعر على الوجه في تلك البلاد يعتبر جريمة تستوجب الملاحقة القضائية، ومن ثم صارت الشرطة في تلك البلاد توقف المارة وتلقي نظرة على وجوههم وإذا لمحوا أثرا لشارب أو مشروع لحية وضعوا ملصقًا »ستكير« على وجه الرجل، بما يعني أنه ارتكب مخالفة وعليه أن يذهب طوعًا إلى مخفر الشرطة ليبقى في الحبس، إلى حين حضور حلاق رسمي لتخليصه من جريمته، وبعدها يدفع الغرامة وفوقها رسوم الحلاقة ويخرج، ثم صارت العقوبة السجن لأن اللحية والشنب اعتبرا تحديًا لفخامة الرئيس الذي استنزفت تماثيله ربع ميزانية الدولة!
والمعروف أن التركمان وبحكم أنهم أتراك يعتبرون اللحية والشارب المبروم من علامات الرجولة، ومن ثم قاوم بعض شباب الجامعات القرار »الصبّاري النيازوفي« فكان مصيرهم الحرمان من التعليم، ومن المعروف أيضًا أن تركيا كانت في ظل علمانية متطرفة، تحرم اللحى المرسلة ولبس الجلباب والعمامة، وكان دستورها ينص على منع ارتداء الحجاب في المواقع المملوكة للدولة، مثل الدواوين الحكومية والمدارس، وظل هذا حادثا منذ عقود طويلة، ولم تخرج مظاهرات في عواصم إسلامية كما حدث في أوروبا مرارا احتجاجا على حظر ارتداء الحجاب، لأن من يتظاهر ضد منع الحجاب في أوروبا يعلم أن التظاهرات سيكون لها صدى من نوع أو آخر.
ونحن مثل حكوماتنا لدينا خيار وفقوس، فما هو حلال على هذا حرام على ذاك، وأمريكا ودول أوروبا كانت راضية على صابر نيازوف، ومن ثم فإنهم لم يطالبوه بالكف عن اتخاذ القرارات السخيفة والمجحفة، والكف عن ممارسة القمع الذي طال طالبًا جامعيًّا هزم ابن أحد الوزراء التركمانستانيين في مباراة للتنس. ولن أنسى كيف أنه وفي مصر تعرضت مطربة اسمها روبي، لمعاملة ديكتاتورية -قاتلني الله إن كنت راغبًا في سماع صوتها أو اسمها– وتعرضت روبي للملاحقة من الشرطة، لأن نقابة المهن الموسيقية رفعت عليها دعوى بممارسة الغناء من دون أن تتمتع بعضوية النقابة، ومعنى هذا أنني لن أتمكن من زيارة مصر لأنني أيضًا أمارس الغناء من دون رخصة، وأتعمد الغناء كلما ظهرت على شاشة التلفزيون واحدة من المطربات اللواتي يسببن لي الرمد والكمد، وسأظل أفعل ذلك نكاية بمن يتحمسون لسماع ما تقوله تلك »الشخصات«، وأغني بكفاءة، لأن صوتي شعبولاوي منفر، ويرغم الناس على الهرب من أمام التلفزيون، فألزم الصمت، وأنجو من الرمد والكمد »مؤقتًا«.
زاوية غائمة
جعفر عباس