بين التَّذاكي والتَّغابي
من أجمل الحكم والأمثال السودانية التي تجوب الأسافير هذه الأيام، ذلك المثل الذي يقول:( البتفولح لك اتبوهم ليه)، وقد جاء ضمن حزمة أمثال منسوبة للشيخ فرح ود تكتوك، حلال المشبوك، ولكن بدا لي أنه للشيخ العبيد ود بدر، لأنه يشبه اسلوبه، وبهذه المناسبة، أزعم بأن الكثير من الحكم التي قالها الشيخان فرح ود تكتوك، والعبيد وبدر، وسارت بها الرُّكبان، تتطابق في المعاني مع حكم الشيخين عطاء الله السكندري، وجلال الدين الرُّومي، أقول في المعاني لدرجة تبدو لك وكأنهما قاما بعملية سودنة لتلك الحكم. ولكن أغلب الظن، أن التطابق جاء لأن الأربعة نهلوا من مرجعية واحدة، وهي التَّصوف الإسلامي، وهذه قصة أخرى.
نرجع للمثل الذي نحن بصدده من حيث المفردات، البتفولح: تعني أن يدَّعي الفَلاَح، أي الذي يتذاكى (نظام عامل فيها ذكي وتفتيحة وكدا)، اتبوهم ليه: تعني أعمل فيها بهيمة أي تغابى له، ليكون المعنى الإجمالي إن الذي يتذاكى عليك، تغابى له، أي تظاهر له بالغباء، فطالما أنك تعرف كنهه فلا خوف منه، إنما استمر في التَّغابي له لكي تصل إلى نهايته بسرعة وتعرف كل مقاصده. ويمكننا هنا أن نضيف المثل السوداني الذي يقول:( قام يتفولح جاب ضقلها يتلولح)، أي إن الذي يتذاكى أكثر من اللازم، سوف يحصد الهشيم في نهاية الأمر.
اندلاع أزمة الخليج الأخيرة، وضع حكومة السودان في وضعٍ لا يُحسد عليه، فكل أطراف الأزمة على علاقة طيبة معها، وكانت تطمع في دعمهم جميعاً في مقبل الأيام، فانبهمت الأمور عليها، فالذي نقترحه عليها هنا أن تحوِّل هذا الانبهام إلى تبوهم، أي لكي تشجع الآخرين للتذاكي عليها، بعبارةٍ أخرى تعمل فيها رايحة لكي تشرب موية الآخرين، بعبارة ثالثة تدَّعي أنها مغلوب على أمرها ( دا أنا غلبااان)، على طريقة عادل إمام.
قبل أيام قام وفداً من المؤتمر الشعبي برئاسة الدكتور علي الحاج، بزيارة للسفارة القطرية لإعلان تأييدهم المطلق لقطر، بيد أن السفير القطري قال لهم إن قطر تسعى للتفاهم مع الآخرين، وحل الأزمة في نطاق خليجي، هذا بعد أن شكرهم. لا شكّ أن خطوة الشعبي هذه فيها رسائل في بريد عدة اتجاهات محلية واقليمية، ولكن التفولح هو الطاغي على هذا التصرف، وبما أن الشعبي جزء من حكومة الوفاق، فقد يشجع سلوكه هذا حزباً من ذات الحكومة ليفعل نفس الشيء، فمثلاً، يمكن لأي فرع من فروع الإتحادي الديمقراطي الأصل، أن يقوم بزيارة لسفارة السعودية، ثم حزب آخر من أحزاب الفكَّة يقوم بزيارة سفارة الإمارت، وآخر بزيارة السفارة المصرية، تدَّعي الحكومة أن عجزها هو الذي تسبب في هذا التَّسيب الدبلوماسي، وتقوم في نفس الوقت برصد ردود الأفعال، لا، بل تفتح الباب للمتذاكين وتستمر في تغابيها، وعن طريق التَّغابي تمسك خيوط اللعبة وتتحكم فيها.
من المؤكد ومع تطورات الأزمة، سوف تطلب أطراف الأزمة من الحكومة السودانية أن تتخذ موقفاً واضحاً، وهنا يجب أن تستقبل الحكومة الجميع، وتسمح للكل بالتصريح بما يريد، وتقول لهم إن في فمي ماء، ومع الإصرار على نطقها تعمل فيها رايحة وتتحمل بعض الذي يقع عليها، أي تقبل أن تكون متهمة، وبعد انقشاع الأزمة يمكن التصالح معها، طالما أنها لم تؤذي الطرف الكاسب، أي المطلوب منها أن لا تكون غبية بل تتغابى، وتسمح للمتذاكين أن يتمادوا في تذاكيهم، بعبارة جامعة، تحويل الحالة التلقائية إلى حالة مصنوعة، فالصانع يمكنه أن يتحكم فيما صنع.
ثمَّة كلمة أخيرة للسادة صُنَّاع الدبلوماسية، رمضان وصل العضُم.
د.عبداللطيف البوني – حاطب ليل
الأحداث نيوز