نهابُ الموت .. لكن ماذا لو لم يكن سيئاً كما نعتقد؟ إليك ما كشفته دراسة جيدة
يقول إرنست بيكر، الكاتب وعالم الأنثربولوجيا، في كتابه “The Denial of Death-إنكار الموت”: “تطارد فكرة الموت، والخوف منه، الحيوان البشري أكثر من أي شيءٍ آخر”. فهو خوفٌ قويٌ بما يكفي لإجبارنا على تناول نبات الكرنب غير المُحبَّب رغماً عنَّا، واستخدام جهاز المشي الكهربائي في السابعة صباح يوم الجمعة، والقيام بأشياءٍ غير مُبرَّرة.
تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية رصد طريقة تعامل البشر مع فكرة الموت، مؤكداً أن نهايتنا الوشيكة ليست مُجرد حافزٍ على اتباع السلوكيات الصحية، الأمر أكثر من ذلك.
فقد وجد الباحثون أنَّ الموت يمكن أن يُحدِّد تحيُّزاتنا، سواءً كنَّا نتبرع للجمعيات الخيرية، أو نُفضل وضع كريم الشمس، وكذلك يُحدِّد رغبتنا في أن نصبح مشهورين، والزعماء الذين نرغب في التصويت لهم، وكيف نُسمِّي أولادنا وما نشعر به حيال الرضاعة الطبيعية؟
سبب للإضرابات العقلية
تُرعبنا فكرة الموت بالطبع. وعلى ما يبدو، فإنَّ القلق من الموت هو جوهر العديد من اضطرابات الصحة العقلية، بما في ذلك القلق على الصحة، واضطراب الهلع واضطرابات الاكتئاب.
ويتخوَّف الجميع من الحديثٍ عن هذا الأمر. وتوصَّلَت دراسةٌ استقصائية، أجرتها مؤسسة “كومريس” البريطانية في عام 2014، إلى أنَّ 8 أشخاصٍ بريطانيين من أصل 10 غير مرتاحين في الحديث عن الموت، بينما 3 أشخاصٍ منهم فقط هم من كتبوا وصيَّتهم.
موقف القريبين من الموت
ووفقاً لبحثٍ جديد يُقارن تصوُّرنا عن الموت بما يتصوَّره الأشخاص الذين يواجهون الموت الوشيك، فلا داعي للقلق.
إذ حلَّل الباحثون ما كتبه المدوِّنون العاديون الذين يعانون السرطان أو التصلب الجانبي الضموري (مرضٌ يؤثر على الخلايا العصبية الحركية) والذين ماتوا جميعاً خلال فترة الدراسة، وقارنوا تلك الكتابات مع منشورات مدوناتٍ كتبها مجموعة من المشاركين في الدراسة، الذين طُلب منهم تخيُّل أنهم شُخِّصوا بالإصابة بمرض السرطان ولا يتبقى في عمرهم سوى بضعة أشهر. وبحثوا عن مشاعر عامةٍ من الإيجابية والسلبية، والكلمات التي تصف الشعور الإيجابي والسلبي، والتي تشمل السعادة، والخوف، والذعر.
ووجد الباحثون أنَّ منشورات المرضى الحقيقيين تحوي كلمات أكثر إيجابية وأقل سلبية، مقارنة بما نشره الأشخاص الذين تخيلوا أنَّهم سيموتون، وأنَّ استخدامهم اللغة الإيجابية يزداد كلما أصبحوا قريبين من الموت.
وقال كورت جراي، أحد الباحثين في الدراسة: “أتصوّر أن سبب هذا هو إدراكهم أنَّ الأمور تزداد خطورةً، وهناك نوعٌ من التقبُّل والتركيز على الإيجابية؛ لأنَّهم يعرفون أنَّه لم يعد هناك الكثير من الوقت المتبقي لديهم”.
وقارن الباحثون أيضاً الكلمات والأشعار الأخيرة للسجناء المحكوم عليهم بالإعدام مع مجموعةٍ من الأشخاص المكلَّفين تخيُّل أنهم على وشك مواجهة تنفيذ حكم الإعدام.
ومرةً أخرى، أدلى السُجناء بكلماتٍ أقل سلبية. وبشكلٍ عام، ركَّز الأشخاص الذين يواجهون الموت أكثر على ما يجعل الحياة ذات مغزى، بما في ذلك الأسرة والدين.
وفي هذا الشأن، قال جراي: “نتحدَّث طوال الوقت عن كيفية تكيُّفنا بدنياً، ولكننا قابلون للتكيُّف العقلي أيضاً. يُمكننا أن نكون سُعداء داخل السجن، وفي المشفى، ويمكننا أن نكون سُعداء ونحن على حافةِ الموت أيضاً”.
وأضاف: “ليس الموت مُجرد جزءٍ من حالة الإنسان؛ بل هو محورٌ أساسي. يموت الجميع، ويخاف معظمنا من الموت. وتُعد تلك الدراسة مهمةً؛ لأنَّها تُوضِّح أن الموت ليس أمراً سيئاً في كل الحالات كما نعتقد”.
التآلف مع الموت
لكنَّ البحث يطرح بعض الأسئلة الأخرى؛ إذ أوضحت ليزا إيفراش، الزميلة الباحثة بجامعة سيدني الأسترالية، أنَّ الدراسة تُسلِّط الضوء على مدى وصول المشاركين لدرجةٍ أقل من السلبية والتفكير السلبي بسبب أنَّ الغموض المُثار حول الموت قد أُزيل.
وقالت: “إن الأفراد الموشكين على الموت يُتاح لهم المزيد من الوقت لمعالجة فكرة الموت والفناء، ومن ثمَّ فقد يصبحون أكثر تقبُّلاً لحتمية الموت. وعلاوة على ذلك، فإنهم يعرفون أيضاً كيف سيموتون، وهو ما قد يجلب بعض الشعور بالسلام أو القبول”.
ولكن، لا يمكن لكل واحدٍ منَّا معرفة كيف أو متى سنموت مُسبَّقاً؛ ومن ثم فلن نستشعر أي فائدةٍ من الكشف عن المجهول.
وتوافق هافي كاريل، أستاذة الفلسفة بجامعة بريستول البريطانية، على نتائج الدراسة حول مدى تكيُّف الأشخاص، قائلةً: “أعتقد أنَّك تَألف فكرة الموت، مثلما تألف أشياءً كثيرة. الصدمة الأولى بعد تلقي التشخيص السيئ أمرٌ مُروِّعٌ، لكن بعد أشهرٍ أو سنواتٍ من التعايش مع هذه الحقيقة، تقل حدَّتها”.
ومع ذلك، أشارت هافي أيضاً إلى أنَّ هناك فارقاً هاماً بين ردود الأفعال الإيجابية والسعادة، وأنَّ هناك بعض الأحداث المزعجة والمؤلمة، والتي لا نزال نتصرف بإيجابية بشأنها، مثلما في الولادة.
وقالت هافي: “تُكتب المدوَّنات للتداول العام وتبقى بعد وفاة الأشخاص. وقد يكشف استخدام المدونات أو الشِّعر فقط عن المشاعر الظاهرية لدى الأشخاص الذين هم على استعدادٍ لمشاركتها، أو حتى صُمِّمت تلك المدونات، ببساطة، لتشكيل النمط الذي يريد هؤلاء الأشخاص أن يتذكَّرهم به الناس. هل يقول الناس الحقيقة حقاً في مدوناتهم؟ ربما، إلى حدٍّ ما، لكنَّها تُعد وسائط عامةً جداً”.
وأضافت: “ربما يرتدون قناعَ الشجاعة في تدويناتهم. من المستحيل أن أجزم بذلك، لكن المدونات، بشكلٍ واضح، ليست هي الصورة الأكثر حميميةً للتواصل. فقد يكون من الأفضل استخدام دفاتر التدوين، أو المحادثات المُسجَّلة مع أحبائهم أو حتى الرسائل الشخصية المكتوبة”.
هل من يحتضرون يرحبون بالموت؟
من جانبه، يُحذِّر ناثان هيفليك، الباحث والمحاضِر في جامعة لينكولن البريطانية، أيضاً من تفسير نتائج الدراسة بما يعني أنَّ الأشخاص الموشكين على الموت ينظرون إليه على أنَّه تجربة إيجابية تماماً.
وقال: “أعتقد أنَّ هذه رسالةٌ خطيرة، وليست استنتاجاً منعكساً في إحصاءات الدراسة. فكونك أقل سلبيةً في تقبُّل الأمر يختلف عن ترحيبك به أو رغبتك في الموت”.
وأضاف: “الناس ستهاب الموت. ويخاف هؤلاء الأشخاص الذين على وشك الموت منه، هم فقط لم يخافوا بالقدر نفسه الذي ظنَّه الناس”.
إذا كان الخوف من الموت، في الواقع، أمرٌ محتوم مثل حدث الموت نفسه، فبإمكاننا إدخال تغييرٍ واحد للمساعدة.
ففي الثقافة الغربية، يميل الأشخاص إلى التظاهر بأنَّ الموت لا وجود له، في حين أشار بحثٌ إلى أنَّ فلسفة الموت في ثقافة اليين واليانغ (فلسفة ومبدأ أساسي في العديد من أمور الحياة) في شرق آسيا- حيث الاعتقاد بعدم إمكانية وجود الحياة دون الموت، تسمح للأفراد باستخدام الموت كتذكيرٍ للاستمتاع بالحياة.
وأضاف: “كلما قلَّت مناقشة أمر ما بشكلٍ علني، أصبح مُخيفاً. وفي حين أنَّ تجنُّب الحديث عن الموت يمكن أن يُقلِّل من إحساس عدم الارتياح قليلاً على المدى القصير، ربما يتسبَّب في جعل معظمنا أكثر قلقاً وفزعاً من الموت على المدى الطويل”.
هافينغتون بوست