من سلبيات الخطاب الإسلامي المعاصر
ويمضي د. عصام أحمد البشير في تتبع بعض القضايا الفقهية، ونورد اليوم حديثه حول سلبيات الخطاب الإسلامي المعاصر وأزمة ضبط المصطلحات وفقهها، فإلى مقاله:
مما ينبغي أن يكون في صلب أولويات الخطاب الإسلامي المعاصر العمل على تحديد المفاهيم وضبط الاصطلاحات، لأنها عملية في صميم قضية الهوية.
فالاصطلاحات – كانعكاس للجوهر الحضاري – ليست سوى منظومة فكرية يفترض فيها الانسجام والتكامل. وذلك لأن الإنسان – بوصفه فرداً، وباعتباره جزءاً من مجتمعه وأمته – يعبر عن رؤيته للواقع والوقائع من خلال اللغة، وطريقة تعبيره تؤثر بدورها في الرؤية. فنحن نخلق طريقة تعبيرنا نتأثر كذلك بالنظام الإشاري الذي نستخدمه.
وإذا كان الحوار بمختلف صوره (حوار المسلمين فيما بينهم، وحوارهم مع غيرهم) هو طريق النجاة من الاستقطاب الفكري المدمر، فإن تحرير مضامين المصطلحات، واكتشاف مناطق التمايز في المعاني والمفاهيم مهمة أساسية وأولية بالنسبة لأي حوار جاد يروم إنقاذ حياتنا الفكرية من خطر التعصب والاستقطاب، ويوجد بين الفرقاء والمتحاورين لغة فكرية مستقيمة مشتركة..
وتحرير المصطلحات واجب أيضاً لما يعرض لها من سوء الاستخدام (كالاحتلال، والاختلال!) .. فمعرفة هذا مهمة جداً لفهم عصرنا وإدراك توجهاته الآنية والمستقبلية، حيث إن الفهم العميق هو مفتاح التعامل الراشد، وأساس اختيار الموقف الصحيح.
وعدم العناية الكافية بهذا الباب من أبرز سلبيات الخطاب الإسلامي المعاصر.. وقد أورث هذا أخطاء فادحة في الفكر والحركة جميعاً!
فالاختلال في فهم مصطلح (الحاكمية) أدى إلى الوقوع في براثن تكفير الأنظمة بإطلاق، دون تفريق بين (الحاكمية والقدرية) و(الشرعية المطلقة) للخالق – جل وعلا – وبين حاكمية سلطة الاجتهاد فيما لا نص فيه أو فيما جعله الشارع الحكيم محلاً للاجتهاد.
كما أن الغلو في مصطلح (الجاهلية) أدى إلى تكفير المجتمعات، دون مراعاة للحد الفاصل بين (جاهلية الاعتقاد) و(جاهلية العمل).
كما غدا الغلو في فهم مصطلحات (الفرقة الناجية) و(الطائفة الظاهرة) و(الجماعة المسلمة) منطلقاً للتكفير المذهبي، دون اعتبار لسياقات النصوص وإنزالها حسب مراد الشرع الحنيف.
وساهم التنطع في استخدام مصطلحي “الجهاد” و”الحسبة” إلى إيقاع العنف الفكري والسلوكي، والذي كان – ولا يزال – ذا حصاد مر وباهظ الكلفة.
هناك بعض من هذه المصطلحات التي أدى اختلال ضبط مفاهيمها إلى ما ذكرنا من أخطاء فادحة في الفكر والحركة.. وهي مجرد نماذج لما وراءها مما لا يسمح به المقام.
الموالاة والمحادة:
إن القرآن الكريم يزخر بنصوص تنهى عن موالاة غير المسلمين ، وتقرر أن الولاء عندما يقع النزاع إنما يكون لله ولرسوله، غير أن هذا الأصل محاط بضوابط تحول دون تحوله إلى عداوة دينية أو بغضاء محتدمة أو فتنة طائفية:
النهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين أولياء بوصفهم شركاء وطن وجيران دار أو زملاء حياة، وإنما هو عن توليهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تحاد الله ورسوله، لذلك تكررت في القرآن عبارة (من دون المؤمنين) للدلالة على أن المنهي عنه هو الموالاة التي يترتب عليها انحياز المؤمن إلى معسكر أعداء دينه وعقيدته.
المودة المنهي عنها هي مودة المحادين الله ورسوله الذين (يخرجون الرسول وإياكم.. أن تؤمنوا بالله ربكم) (سورة الممتحنة، الآية 1) .. لا مجرد المخالفين ولو كانوا سلماً للمسلمين.
غير المسلم الذي لا يحارب الإسلام قد تكون مودته واجبة كما في شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال الأبناء المسلمين .. فمودتهم قربة وقطيعتهم ذنب.
الإسلام يعلي من شأن الرابطة الدينية ويجعلها أعلى من كل رابطة سواها، ولكن ذلك لا يعني أن يرفع المسلم راية العداوة في وجوه غير المسلمين لمجرد المخالفة في الدين أو المغايرة في العقيدة.
الجزية وهي ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل في مقدار زهيد من المال يفرض على الرجال البالغين القادرين، على حسب ثرواتهم، والجزية لم تكن ملازمة لعقد الذمة في كل حال كما يظن بعضهم، بل استفاضت أقوال الفقهاء وقالوا إنها بدل عن اشتراك غير المسلمين في الدفاع عن دار المسلمين، ولهذا .. أسقطها الصحابة والتابعون عن من قبل منهم الاشتراك في الدفاع عنها، فعل ذلك سراقة بن عمرو مع أهل أرمينية سنة 22 هـ وحبيب بن مسلمة الفهري مع أهل أنطاكية، ووقع مثل ذلك مع الجراجمة – وهم أهل مدينة تركية – في عهد عمر رضي الله عنه وأبرم الصلح مندوب أبي عبيدة بن الجراح وأقره أبوعبيدة فيمن معه من الصحابة، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابي عبد الله بن أبي السرح على غير جزية بل على هدايا تقدم كل عام، وصالحوا أهل قبرص في زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم.
والأمر في غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية، ويسهمون في حماية دار الإسلام، سقوط الجزية عنهم، و”الصغار” الوارد في آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة.
فوضى الشعار .. وداء التعميم!
وهذه من أخطر مشكلات الفكر بوجه عام، وتتزايد خطورتها إذ توسم بصفة “الإسلامية”، لأنها تختلط حينذاك بمقررات الدين اختلاط مفهومي “الدين” و”التدين” الذي سبق الحديث عنه!
وسوف نكتفي بضرب عدد من الأمثلة التي تشير إلى ما وراءها من شعارات لا تحوي مضامين علمية ذات مصداقية، وتعميمات خاطئة لا تستند إلى واقع مختبر!
الكفر كله ملة واحدة:
هذه العبارة في مآل الكفر فهو ملة واحدة من حيث العاقبة، لكن ذلك لا يعني أن كفر أهل الكتاب مثل كفر الوثنيين.
خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة:
هذه العبارة صحيحة في مجال الاعتقاد والتصور فلا يجوز أخذ العقيدة تفاريق، لكن في جانب تطبيق الأحكام وتنزيلها إلى أرض الواقع لابد من المرحلية والتدرج.
العولمة شر محض:
هذه العبارة لا تصح لأن العولمة – على كثرة ما بها من شرور – لا تخلو من جوانب عظيمة الفائدة للدعوة الإسلامية.
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة